للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[شذرات]

الجبل والبحر

لقد سكنت الجبل والشاطئ فلا والله لست قائلاً أيهما أحسن بيد أن ما كان فيه منزلك فذلك خير لك ثم اعرف بينهما هذا الفرق وهو أنك قد تروض الجبل وتذلله فتقتعد من ذروته مهاداً ليناً وتفترش من غاربه مجلساً وطيئاً فأما البحر فذاك الأبي الجامح العنان لا يمكنك من ظهره ولا يخولك من جانبه والجبل تستطيع أن تتخذ به كوخاً أو تعرف به صاحب كوخ وقد تبصر به مع المساء مصباحاً فتعرف أن هناك أناساً قد تضيفهم فيحسنوا قراك وقد تبصر بسفحه أشجاراً وأعشاباً وبقلاً وريحاناً تجري من تحتها مياه وأنهار إن شئت كان لك في جنابها سعة مرتع وتحت ظلالها حسن مستمتع ومن أغاريدها حلاوة مسمع فأما البحر فليس وراءه إلا الخديعة والخب يلحس قدمك ويلقاك من ترجيع الخرير بمثل مواء الهر حتى إذا وجد الفرصة لم يدع أن يحطم عظامك فيلتهمك ويزيل عن فكيه محمر الزبد فكأنما لم يكن شيء والجبل يرزق الحائر الضال ماء وفاكهة والبحر يسخرمن ظمأ ركابه ويسلمهم إلى الموت وللجبل جرم هائل الجسامة ولكنه مأمون المضطرب سليم المنقلب والبحر يملس من قطع أديمه حتى لا ترى مفاصلها ولكن لمعانها لمعان بطن الافعوان والجبل ينقص من سلسلة النسل الإنساني ويقصر من حبل ذريته ولكن البحر يغرق الإنسان والزمن ماله بأحد هذين من صلة ولكنه أخو الأبد وخريره الدائم إنما هو نشيد يرجعه احتفالاً بالأبد آخر الدهر وأنا بعد لا أكره أن يكون لي كوخ على شاطئ البحر ويسرني أن أشرف من نافذتي على العباب الزاخر كما يسرني أن أقف ناظراً إلى سبع في قفصه ويلذني أن أبصر البحر يمط صلبه الملتمع ويطوي من جانبيه ويبسط ثم لا ينشب أن يهيج ويحنق فيرغي ويزبد ويثب على شاطئه وثبة السبع على قضبان قفصه ويروح مجنون العباب يضج ويصرخ بما لا خوف على منه وأين الذي سرح في الطرف فلم يجد في سعة انفساحه وجلال مرآه مشغلة عن حقائر الحياة وضغائر شؤونها حتى ينسى في عظمة منظره من الحاكم والرئيس ومن أي شعب هو (الناظر إلى الماء) وأي لسان يتكلم وبأي مصابيح السماء مناط حظه وجده ومدار نحسه أو سعده أين الذي يعلم ذلك ثم لا يقبل برهة على جانب البحر فيصغى إلى دقات موجه على ساحله تتابع على ميزان الطبيعة منذ