للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغازات الخانقة في عالم الحشرات]

لا تحسبن أن العلم الحديث، بجميع ما ابتكر واستحدث وابتدع، من هذه المخترعات العديدة التي لا يكاد يحصيها العد، يستطيع أن يبز عظمة الطبيعة أو يغلبها على جلالها أو ينتقص من أطراف روعتها، ولا نظن أن العلماء وأهل الفنون والمبتكرين يدانون الحشرة الصغيرة في فنها، أو سيحاكون النملة في جلائل أعمالها، ولعل خير ما قال الحكماء في عظمة الإنسان والفارق بينها وبين عظمة الطبيعة ما قال المؤرخ جبيون إذ وصف في كتابه سقوط رومة روعة كنيسة أيا صوفيا في مدينة القسطنطينية وما كان من الفنون البيزنطية وبراعتها وسموها حتى لقد استغرق وصفه فيها بضع صفحات ثم ختمها بقوله على أن الكنيسة بجميع ما فيها من آثار الفن الإنساني لا تعادل في جلال صنعها العش الصغير الذي تنشئه حشرة العنكبوت في ركن من أركان قبابها العالية.

ولقد يتوهم القراء أن هذه الغازات الخانقة التي ظهرت على يد العلم في هذه الحرب مخترع عجيب، ومبتدع طريف، لم تشهده الدنيا، ولم تأت بمثله الطبيعة، ولكن هذا هو الخطأ وذلك هو الوهم، فقد وضع أحد العلماء الحشريين المشهورين مقاله في إحدى مجلات العرب التي ظهرت في هذا الشهر يثبت فيها أن فكرة صنع غازات خانقة للفتك بالعدو تحصين النفس من غارة المغير لا تزال فكرة منفذة في عالم الحشرات، ونحن ننشر هذا البحث لفائدته وغرابة ما جاء فيه من تلك الحكمة الطبيعية التي لا تخص القوة الإلهية به عالم الإنس وإنما يشترك فيها الحيوان والإنسان على السواء.

نحن نعلم أن الحشرة لا تفكر ولا تعيش على هدى فكر منظم ولكن أعمالها مع ذلك غريزية محضة فالغريزة هي التي تدفعها في ما استمدته من أدوار تطورها على مدى الزمن لحماية نفسها من شر أعدائها أو مخادعة خصومها أو لجلب كفافها من الغذاء وما تتوارثه عن بعضها البعض وما تهذب فيه من عادات آبائها ولهذا كثيراً ما نلتقي بأمثلة مدهشة فتتوهم لأول وهلة أنها حيل مدبرة وأخاديع منظمة أحدثها عقل كبير، دون أن ندري أنها من صنع الغريزة، وقد دلتني الأبحاث الأخيرة التي قمت بها في فحص بيض ضرب من الدود على أمور مدهشة يحار لها الفكر الإنساني وهذا النوع يسمى لدى الحشريين () وهو حشرات تتغذى بأوراق أشجار التوت والحور، وطريقتها في تغذية نفسها منها طريقة عجيبة خارقة للعادة، وذلك أنها قبل ان تتغذى على الورقة تبتدئ بشمروخها أو ساقها وتنفث فيه بضع