للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الموت]

مخافة الموت غريزة بشرية أحسن دواء لها أن يذكر الإنسان أن للحياة بداية كما أن لها نهاية، فلقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاًَ مذكوراً، ومع ذلك فإن هذا لم يضره ولم يعنه ولم يأبه له ولم يكترث، فلماذا يعني ويهتم ويتأفف من أنه سيجيء عليه حين من الدهر لا يكون شيئاً مذكوراً. إنه ليس بودي إن كنت حياً أرزق منذ مائتي عام أو أثناء عهد الملكة اليصابات. فلماذا يسؤوني ويؤلمني أني لن أكون على قيد الحياة بعد مائتي عام - في عهد لا أدري من!.

ليس الموت إلا عودة إلى الحالة التي كنا عليها قبل مولدنا التي لا نستطيع اعتبارها إلا فرجة لنا وخلاصة للنفس وإطراحاً لأعباء همومها، فلقد كانت هذه الحالة عيداً لنا وكنا بخير لم ندع إلى الظهور على مسرح الحياة للبس الحلل الزاهية أو الأطمار البالية - للضحك أو للبكاء - لاستحسان الجماهير حركاتنا وأعمالنا أو لاستهجانهم إيانا.

ولكنا كنا راقدين في زوايا الفقدان وكهوف العدم بمعزل عن الأذى، وقد نمنا ملايين القرون لا نريد أن نستيقظ آمنين مطمئنين خالين من الهم والأسى مدة ذلك العدم الطويل في نومة أهدأ وأعمق من نومة الطفولة ملفوفين في رداء من أنعم التراب وألينه. ومع ذلك ترانا نظل وأخوف مخاوفنا أن نعود إلى هذه الحالة - إلى الراحة النهائية إلى دار الخلاص من الأحزان والمصائب بعد حياة تعسة شقية كلها كرب وضيق آمال كاذبة ومخاوف باطلة.

ليس في فكرة حياة سابقة لميلادنا من عوامل التشويق والترغيب مثل الذي يشعر به المرء نحو حياة مستقبلة تجيء بعد حلول الأجل. فلقد يسرنا أنا بدأنا الحياة حين بدأناها ولا يسوؤنا أننا لم نبدأها قبل ذلك فحسبنا ما عانينا وكابدنا وما كافحنا وجاهدنا مدة عمرنا القصير. فلا ضير علينا أنا لم نشهد حرب طروادة ولم نبصر مصرع هكتور وآخيل ولم نر اليونان تدحر الفرس في ثرموبولي. فحسبنا أن نقرأ أنباء ذلك في الكتب والأسفار ونقف ننظر إلى البحر الهائل الذي يفصل ما بيننا وبينها. تلك العصور كانت في بكرة الدهر وطفولة الدنيا إذ كان العالم لم تمهد به أسباب الراحة والرخاء بعد فإن تكن الحياة إذ ذاك فأخذنا العدد لقطع مراحل العيش فنحن لا نرى خساراً علينا في فقدنا الستة الآلاف الأعوام التي سلفت قبل ظهورنا. ولا نشعر نحو ذلك بأدنى اهتمام أو اكتراث. ولا نتوجع ونتفجع لأنا لم نر كرنفال الحياة الأكبر يسير أمامنا موكبه العظيم الهائل طول تلك المدة