للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حضارة العرب في الأندلس]

الرسالة الثانية

من المرية إلى قرطبة

(تابع)

وبعد أن أقمنا في الورية ثلاثة أيام بلياليها تحمنا منها في ركب فخم نبيل موف على الغاية، في الأبهة والروعة والجلال، قاصدين إلى قرطبة حضرة هذه البلاد، وكان في طليعة الركب أمير البحر عبد الحمن بن رماحس، إذ أمره الحكم بن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده كما أسلفنا أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين ويجيء معنا إلى قرطبة مبالغة من الأمير حفظه الله في الاحتفاء بنا وبأبي علي القالي البغدادي وبأبي عبد الله الصقلي الفيلسوف الذي وصل إلى المرية قبل انفصالنا عنها، وكان في المركب من الأندلسيين الرمادي الشاعر وأبو بكر بن القوطبة وأبو بكر الزبيدي وكثير من أدباء الأندلس وأعيانها.

وقد بهرنا وسحر أعيننا وملك علينا ألبابنا ما رأيناه في طريقنا من استبحار العمران في هذا القطر الأندلسي، فقد كنا نمر في اليوم الواحد بثلاث مدن وأربع، وفي حيثما سرنا نرى الحوانيت - في الأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة. وكنا نتعثر تعثراً بالجداول والأنهار، تحفها البساتين وصنوف الزرع والنجوم والأشجار، حتى لظننا أنه ليس في هذه البلاد صحراء مقفرة أو أرض غامرة.

يا أهل أندلس لله دركم ... ماء وظل وأنهار وأشجار

ما جنة الخالد إلا في دياركم ... ولو تخيرت هذا كنت أختار

أما القرى والمعاقل والحصون فإنها لا تحصى كثرة، وقراها جميلة لتأنق أهلها في أوضاعها وتبييضها لئلا تنبو العين عنها.

لاحت قراها بين خضرة أيكها ... كالدربين زبرجد مكنون بي عبد اأبي عبد الله أ

وأكثر مدنها مسور من أجل الاستعداد للعدو، وفي مدنها لذلك ما يبقى في محاربة العدو ما يربى على عشرين سنة، لامتناع معاقلها ودربة أهلها على الحرب.