للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[كتاب العصر]

أحمد لطفي بك

في الصف الأول من صفوف الكتاب العصريين ينهض هذا الرجل الخصيب الذهن، القوي الأثر، ولعله كان محدثاً في الآداب المصرية تغييراً خطير الشأن، ومرسلاً في أرواح الشباب والمنحدرين إلى المستقبل تطوراً شديد السلطان، لو أنه أمسك على نفسه بعض النشاط الذي كان يثب في جوانحه يوم كان في الحياة العمومية قائداً يمشي في أثره كثيرون من المتطلعين إلى التهذيب، النازعين إلى مناهضة المبادئ القديمة التي لا يزال يعض عليها بنواجذه سواد طبقات الشعب، ولو أنه غالب الحب الذي يتغلغل في نفوس أكثر الناس لروعة المنصب الحكومي وفخامة مقاعد الإدارة، أو لو أنه إذ جلس مجلسه، وتولى منصبه، لم ينس الناس ولم ينصرف عن الجمهور، ويرضى بعمل هين ليس فيه من متعبة إلا كثرة الإمضاءات والتوقيعات، ومراجعة القوائم والكشوفات.

وما أظن الجلوس في مقاعد الحكومة يمنع الرجل المفكر من أن يطل على الشعب الحين بعد الحين، أو يترك الذهن صدئاً منطفئاً مفلول العزيمة، بل لقد رأينا كثيرين من أهل الفكر قعدوا مقاعد الحكومات، وتولوا الوزارات والرئاسات، فلم يحل ذلك بينهم وبين عرض الصور التي تلوح في أذهانهم على الجمهور، وإخراج ثمرات قرائحهم كلما رأوا الفرصة سانحة، والزمن مواتياً، فقد كان لو رد بيكو نسفيلد على رأس الوزارة الانكليزية فلم يمنعه منصبه على خطورته أن يضع ذهنه في كل مكتبة ويعيش في خزانة كل قارئ فبيناهو ينشئ المحالفات، ويوقع على المعاهدات، ويرأس البرلمانات، إذ هو طرح عنه كل ذلك، عائد إلى حجرته، ليغيب في تفكيره، ويأخذ في وضع رواياته، حتى لقد كان على رأس الحكومة، ثم هو بعد ذلك في رأس كل إنسان يعيش تحت الحكومة وكان كبير الوزراء وكبير الروائيين في آن واحد، ولعل روايته فيفان جراي تقوم في التاريخ الإنساني بكل ما أنشأ من عهود وأنظمة، واستن من شرائع وقوانين وهو في وزارته ومكان رئاسته.

ثم نحن لا ننسى أيضاً أن جوت كان وزيراً ورئيس بلاط دوق ويمر، ورئاسة بلاط الملوك مضيعة للزمن، مشغلة عن الحياة، صارفة عن كل شأن، لأن صاحبها ملزم بأن يظل عند عين الملك وسمعه، وأبدا في ندوته وسمره، فما كان ذلك ليقتل في جوث الروح المضطرمة