للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

في جانحته، والنزعة الفكرية التي تتقد في فؤاده، فكان يفلت حيناً من سلطان ملكه ليطيع سلطان عقله، ولو كان سلطان الحكومات مستطيعاً أن يسود في المفكرين على أذهانهم، لما انحدر إلينا ولآخر إنسان سيبقى على الأرض كتابه أحزان ورثر وهو الكتاب البديع الرائع، كتاب الحزن الإنساني كله.

ثم لا ننسى كذلك أدباء العرب الذين عاشوا في قصور الخلفاء، وولوا الولايات، وعهدت إليهم المقاطعات، فأبوا إلا أن يظلوا مع ذلك أدباء وكتاباً أكثر منهم ولاة وعمالاً وحكوميين.

على أنا نقول أنه ما كان أبدع ذوق الحكومة، وأعطف فؤادها على الفكر والأدب، إذ اختارته لوظيفة ليعيش فيها بين الكتب وتركت إليه أذهان ألف سنة أو تزيد تحوطه وتشارفه، ولم تحرمه من الجو الذي لا يموت فيه الذهن، لا تصدأ فيه القريحة، ولم تختطف منه قلمه فتحطمه وتقذف به تحت مكتبه، وكان هذا ولا ريب عزاء الناس يوم اعتزاله إياهم، وكان فيه بعض التخفيف من ألم المهذبين يوم اختارته الحكومة لنفسها، إذ كان الجميع يتوقعون أن تصبح دار الكتب النبعة التي سيخرج منها ذهن قائدهم أصفى من قبل وأكثر فيضاً وأنضج فكراً، وكان أملهم في ذلك أمل صاحب العمل الذي يعهد إلى عماله المقام في مشارف مناجم الذهب، واحتفار أرض هي مظنة المعدن والجوهر.

ثم لا تنس بعد ذلك أن الحكومة لم تأخذه إليها إلا يوم نشبت الحرب، وطارت شرارة المجزرة، وخمد صوت الفكر متبدداً في تضاعيف صوت القنبلة، وانكمش المفكرون متضائلين أمام أهل السيف، فلم يكن ثمة سبيل إلى هذا الرجل المفكر أن يرسل قلمه في تفاسير السياسة، وينطلق في شرح أعاصير الدول، والخوض في نبوءات الحرب، وكان الرجل لا يزال مهيب الفكر عند الحكومة، محترم الذهن عند كبارها، فلم يسع الحكومة إلا أن تذهب إليه فتهمس في أذنه أيها الرجل المفكر، ليس لك محل في الحرب، إن زملاءك اليوم في دول الحرب قد سكتوا، إذن فتعال عش بجانب أساتذتك مفكري العصور الذاهبة، تعال اخرج لنا من هذه المطمورات تمثالاً للفكر منسياً.

حتى إذا استرسلت الحرب في عزيفها وصريخها ونكرها، لم يلبث أن ملها الناس واعتادوها، ورضوا بالآلام التي تجيئهم من ناحيتها، وراحوا يتلمسون عنها العزاء، ويتفقدون السلوى، وليسوا بحاجة إلى شيء مثل القراءة، ولا أذهب لأحزانهم من الكتب