للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لأنها تضمد جراحات النفوس، وتسكن آلام الأذهان، ولو خرج للجمهور اليوم كتاب بديع طلي خفيف الظل لالتهموه لساعتهم، لأن أذهان القراء أصبحت تحس بحاجتها إلى الغذاء، إذ كانت مواد التسعيرات جعلت مطالب المعد تسود على مطلب العقول، وقد تعب الناس الآن من كثرة التفكير في الأكل، إذ علموا أن الحرب ستأكل الجزء الإنساني فيهم وتدعهم نوعاً جديداً من الحيوانات المتكلمة إذ لم يحتفظوا بقلوبهم وأذهانهم.

وكان هذا الرجل المفكر يستطيع في هذا الزمن الأحمر القاني من دماء الأبرياء أن يكون بلسماً، وكان فكره الخصيب خليفاً بأن يكون معزياً مواسياً، ولكنه ترك الناس لآلامهم، وجعل نفوس القراء المتلهفين على قراءة البديع من الفكر في سكون أشبه بسكون الموت، ولم يخرج للجمهور في ثلاثة أعوام أثر فكره إلا مرتين، في يوم عيد شكسبير، وكلمة عن قاسم أمين، وهذان المقالان وإن لم يكونا في شيء من روعة الذهن الذي كان يطل علينا قبل ركوده قد وقعا إذ ذاك من نفوس القراء، وأذكرا الجمهور السحر الأول الذي كان يبين في كتابته، والفتنة التي كانت تفعل في القلوب من أثر طلاوة موضوعاته.

وقد يتعزى كثيرون اليوم عن سكوته بأنهم سيرونه بعد حين طالعاً عليهم يحمل أرسطو في يده وخارجاً إليهم بفلسفة قديمة كان لها الأثر الأكبر في تهذيب الإنسانية وتنويرها، وعليها قامت الفلسفات التي جاءت بعدها، على أننا نقول لهم ما قلناه من قبل وهو أن مقالاً واحداً من قلمه الساحر في شأن من شؤون حياتنا الحاضرة أجدى علينا من أرسطو وكتبه، لأنه إذا كان تمت فائدة من فلسفة أرسطو وتواليفه فهي لطلاب دراسة الفلسفة القديمة والراغبين في أن يحملوا الحياة على طرف دبلوماتهم وشهاداتهم ويعيشوا بهذه الرقعات الجميلة المختلفة الألوان التي لا تفيد في معركة الحياة شيئاً، ثم ليس كل القراء طلاب دبلومات، وليسوا جميعاً في مجالس المدارس، بل هم أحوج أن يغتذوا من روح المفكر العصري الذي يعيش بينهم ويشاركهم في عواطفهم، ويكشف لهم عن كنه الحياة، ويفتح أعينهم الزائغة القلقة إلى أسرار الوجود، من ألف كتاب قديم لألف فيلسوف عظيم، فلو مضى الآن أناتول فرانس وهو من أكبر كتاب فرنسا المعاصرين، فنبش كتاباً قديماً من كتب الفلسفة العتيقة فترجمه لشعبه، لاحتفلت به المدارس ورحبت به الجامعات، ولكنه لا يستطيع أن يظفر في قلب القارئ الفرنسي العادي البعيد عن المدارس وأهلها بما يظفر به من التأثير كتاب