إن نزعة مقدسة لأنها رسالة إلى السماء إلى أهل الأرض. ولكن نزعة الوطن أقدس منها لأنها جاذبية الأرض لأهلها. ومغناطيسية التراب لمن خلقوا منه ودرجوا فوق أديمه. والنزعة الأولى إحساس داخلي عميق صادر من مكان خفي. وعوامل غامضة. ولكن النزعة الأخرى ليست إلا حاسة واضحة، ونتاج بواعث جلية ظاهرة. وتاريخ الدنيا ليس إلا تاريخ النزاع المستمر بن العاطفتين، وسجل الحرب الطاحنة بين الحاستين، وليست المدنية التي نزهى اليوم بها والحضارة الحديثة التي نشيد بذكرها، إلا وليدة الأولى، وربيبة الأخرى، على أنه كثيراً ما بنيت الثانية. وكثيراً ما هدمت الأولى. وكل دين في العالم لم ينهض إلا على أنهار من الدماء. ولم يذع إلا بعد ذبح عظيم، ونفوس تلاشت في سبيله، وأرواح ذهبت في طريقه، وقد كان الدين لا يزال في الجماعات الدينية التي لا تزال تعيش بروح القرون الماضية، يدخل في كل قطعة نم الحياة ويتغلغل أثره في كل ظاهرة نم ظواهر العيش، وكان الدين في الحياة الإنسانية الأولى السلطان الأكبر الذي يحكم الناس ويمتلك رقابهم. وينفذ أحكامه في نفوسهم وأفئدتهم. وهو الذي أثار تلك الحروب المخيفة التي ما أن تزال عنواناً على تاريخ الماضي المظلم. وآية باقية على مبادئ القرون الوسطى. إذ كان الناس يأبون إلا أن يقتتلوا ويدس الأخ أخاه في الثرى، ويبقر الجار بطن جاره على حاسة الدين التي ليست إلا العلاقة الخفية القائمة بين الفرد والكون العظيم الذي حوله. ولا شأن لها بعلاقة الفرد بالفرد والجمع بالجمع. وما كان ذلك إلا لأن الدين وإن عظم إذ ذاك سلطانه على الأرواح. كانت تغلب عليه الروح المادية. وكان أكبر مظاهرة الأنانية. إذ كان الناس يرون يومذاك في أوثانهم آلهة محسوسة فعالة نافذة السلطان. وإن حياتهم لا تسير إلا إذا جرها الدين جراً. وساقها الإيمان بالعقيدة سوقاً، وإن نشبهم لا يزيد إذا لم يجاهدوا للعقيدة التي يدينون بها. وإن شاءهم وأنعامهم لا تسمن ولا تربو إلا إذا حاربوا من أجلها. وكانوا يرون من الأنفة وقوة الجانب والعزة الكبرى أن يكرهوا الدنيا على أن تدين بدينهم. وإن لا يسمحوا بالحياة في جوارهم لما ليسوا على نحلتهم.
وبجانب تلك الحاسة العظيمة الجبارة. كانت تعيش نزعة الدفاع عن الأرض التي يعيش