للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفوضوية والفوضويون]

لعل أشد أنواع الجنون الشباب، إذ كان يغتذي من حرارته، ويستمد غلواءه من غلوائه، ويأخذ ضرامه من مضطرم عواطفه، ولا تجد شباباً خلواً من رائحة الجنون، إذ كان الشباب شعبة منه، وإنما على قدر حرارة النفس، وتسلط الآراء المجنونة على الذهن، يكون مقدار الحزن من الشدة والهول، وأنت لا ترى الشباب إلا أسرع تأثراً من الكهول، وأقل نظراً، وأخف أحلاماً من الرجال والشيوخ، لأن الجنون لا يعرف التردد، ولا يريد التفكير، ولا يعبأ بالنتائج، لأنه يخشى أن يكون في التردد ذهابه، وفي التفكير تلاشيه، إذ كان التردد من خصائص العقلاء، وليس من شأن المجانين، وإذا ما رأيت الجنون يتردد هنيهة واحدة، فاعلم أنه قد بدأ يدخل في حدود العقل.

وإذا كان ذلك كذلك، فلا تعجب أن تسمع أن جميع المجرمين السياسيين إلى هذا اليوم لم يكونوا إلا شباباً وفتياناً، تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين، وفيهم صبية إنشاء لم يفوتوا بعد التاسعة عشر، لأن تعاليم الفوضى لا تتفق مع العقل، وإنما تمشي مع الجنون، ولا تستعين ببرودة الشيخوخة، وإنما تريد حرارة الشبيبة، وأشد مخاوفها الأحجام، وأشد معطلاتها التروي. فهي لذلك تخشى العقلاء ولا تطمئن للرزانة، ولا تسكن للمجادلة والمحاجة، يجب أن يكون خدامها عمياً حتى لا يبصروا، ومجانين حتى لا يحجموا، ويائسين حتى لا يخافوا ولا يفرقوا، فهي لذلك لا تقع إلا على حيواني كره الإنسانية، فأراد أن يطعنها في رؤوسها وتيجانها، ويضع من صوالجها وعروشها، أو خامل يريد بقتل العظماء نباهة الذكر، أو مغمور يرجو بزكى الدماء رفعة القدر، أو مفلوك يطلب بالاشتراكية الإجبارية الغنى بعد الفقر، أو معتوه ممرور يريد ما يراد منه، وكذلك تضم إليها زعانف الإنسانية ونفاياتها، وتجمع إليها أدنياءها ورذالاتها، وبذلك تعوض عليها بالكمية ما تفقده من المزية.

حسبك من خطر هذا الجنون، ما وقع في خلال الشهر المنصرم، فطار نبأه بين المشرق والمغرب، ورددت صداه أنحاء العالم، خطبان جللان، أحدثهما غلامان مفتونان، يسند أولهما إلى التاسعة عشر، وجاز الثاني الحول العشرين - ونعني بهما قاتل الأرشيدوق فرانسوا فرديناند ولي عهد النمسا في البوسنة، والمعتدى على سمو أميرنا المفدى، ومليكنا المحبوب، في الآستانة.