للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اعترافات ده موسيه]

الفصل الرابع

فلما رأى ديزينيه أن اليأس قد بلغ بي حتى عز الدواء، وتوارى الرجاء، وأنني بت لا أريد أن استمع لنصيحة الناصحين، أو أقبل على أحاديث اللائمين، وأني أصبحت لا أفارق حجرتي، همته حالي وأشغله أمري.

جاءني في ليلة مرسلاً على معارفه سيمياء الجد، وفي أسارير وجهه علائم الحزن، ثم جعل يحدثني عن خليلتي في لهجة المتهكم، وطفق يرمي النساء بكل نكراء سيئة، وأما أنا فتحاملت حتى استويت في سريري أسمع له وأرى.

وكانت ليلة مظلمة، تئن فيها الريح أنين المحتضر، والسماء رذاذاً يتناثر على زجاج النوافذ، تاركاً بين آن وآن سكوناً كسكون الموت، وكل شيء في الطبيعة محزون يتوجع، فالشجر يتمايل من ألم، مطرقة أعاليه من حزن، وأطيار الحقول انزوت في الدغل والوكن، وأقفز الشارع من الناس، وعاد جرحي يؤلمني.

بالأمس كانت لي خليلة، وكان لي صديق، فنفرت الخليلة وتولت وألزمني الصديق سرير الوجيعة والألم.

ولا أكاد أعلم ما خطر في نفسي، ولا أظن إلا أنني كنت في حلم مروع مخيف، وأني أغمضت عيني لأنهض في الغد سعيداً ناعم البال، مشرق الأمل، وبدت لي حياتي في تلك الساعة حلماً مضحكاً باطلاً، أشبه بأحلام الصبية الصغار، انكشف باطله، وبدا كذبه، وكان ديزينيه جالساً إزائي بجانب المصباح رزيناً ساكناً، تلوح على فمه ابتسامة لا تفارقه.

ذلكم ديزينيه، رجل كله قلب، على حين أن فيه جمود الصفاة الملساء وخشونة الصخرة الصماء، رجل بكرت في الحياة تجاربه، وغرب نهار مشاهده، على أن شمس حياته لا تزال في مشرقها، وأحفى مر الغداة شعر رأسه فبان أصلع قبل الأوان.

لقد عرف ديزينيه الحياة وبكاها في حينها، وجرت دموعه في همها، ولكنه اتخذ لحزنه درعاً من الصبر، وكان دهرياً، وكان يرتقب الموت.

وأنشأ يقول: أني أراك تذهب في الحب مذهب أهل الخيال والشعراء ومذهبك يمنعك من الرجوع إلى رشدك، ويقودك إلى هموم كثيرة ومتاعب.