يعلم الناس أن العرب في جاهليتهم الأولى كانوا يئدون البنات، ويقتلون البنين، خوفاً من عار يصيب شرف العشيرة من فتياتها، وخشية إملاق من تكاثر فتية العشيرة وغلمانها، إذ كان الرزق في الصحراء شاقاً على أهلها، وكان الطعام لا يظفر به إلا بشق النفس، وتهالك الروح، وكان الطعام لا ينال إلا قسراً، والأكل لا يقع للفم إلا انتهاباً، فخشي القوم أن تجوع بطون الجميع، فآثروا أن يقضوا على أنفس القليل، ليعيش الكثير، وقد يكون في تلك العادة الجاهلية روح من الوحشية والقسوة، ولكنه لا يزال بعد نظاماً اجتماعياً، وتنفيساً للحياة من أن تخنق فينقرض الأهل، ولا يبقى طفل يوأد، ولا وليد يخنق، ولكنا لا نستطيع أن نرتضي ذلك النظام، لأن الرحمة مادة العيش، ولزام الشرائع، ونحن يهون علينا أن نصاب في كثير من فروع الحياة من وراء الرحمة إذ نستخدمها في مواطن غير مواطنها، وتسلم الرحمة من الأذى فتعيش بجانبنا.
ولا يظن القراء أن عادة قتل الطفل والصبية، إناثاً وذكراناً، قد انقرضت إذ بادت الجاهلية الأولى وأن العرب هم واضعو ذلك النظام الخشن وحدهم، وأن الشمس اليوم تطالع العالم فلا تشرف على والد يغيب أصابعه في عنق وليده وتغيب عن الدنيا وتنيب عنها أخاها القمر فلا يدرك إما تخنق طفلتها وهي في نشيجها مفحمة من البكاء، بل لا تزال تلك العادة شائعة في كثير من أقطار الدنيا وبلاد الله، وفي أقاليم لا يعز فيها الطعام، وتخوم سرية بالغذاء وخبأ الأرض والسماوات ففي قبائل الأسكيمو الغربيين يقتل الأطفال لا خشية مسغبة أهلهم وإنما يخنق الضعفاء منهم والمشوهون، ولا يسمح للولدان التوائم بالحياة، لأنهم يعتقدون أن الشؤم واقع بمولدهم، وأن النحس ملم بخروجهم إلى نور الشمس وفي قبائل تسمى الإيبونز في أمريكا الجنوبية يقتلون الأطفال الذكور أكثر من قتلهم الإناث، فإذا أبقوا يوماً على طفل منهم، لم يلبثوا أن يبيعوه ويستبدلوا به زوجة، وأما الفتاة فغالية الثمن سامية القيمة.
وقد أرجع العلماء الكبار مثل هربرت سبنسر ودارون ووستر نمارك وماك لينان عادة قتل الطفل إلى أربعة بواعث، نحن باسطوها للقراء.
فالباعث الأول ثورة غاضبة في النفس وسورة حادة تغذوها الوحشية فقد ذكر دارون أن الرجل في جزيرة تيارا دل فيوجو ومعناها في الإسبانية أرض النار وهي تلك الجزيرة