للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

هل كان مجنوناً

تقدم إلى القراء في هذا العدد رواية بسيكولوجية، غريبة الموضوع، مدهشة الوقائع، مخيفة المغزى، بلغ من أهميتها وغرابة حوادثها، إن عقد مجمع الأخصائيين في الأمراض العقلية بمدينة سان بطرسبرج مجلساً خصيصاً بها، وأخذوا يتباحثون في أمرها، ويحللون دقائقها تحليلاً طبياً نفسياً لكي يخرجوا منها بنتيجة كبرى في علم النفس وفن الطب، وقد كانت مثاراً لتضارب آراء المفكرين والباحثين، وانقسام الأطباء والسيكولوجيين، واشتهرت في الغرب وعظم شأنها، هذا وواضعها ليونيداس أندريف كاتب من أبدع كتاب الروس، وروائي من خيرة روائيهم، وناهيك بما للأدب الروسي الآن من السلطان الفكري في أوروبا، بل لقد بذ الآداب الفرنسية والإنكليزية والألمانية والطليانية، وسما عليها جميعاً في الروائيات والنفسيات، حسبه أنه أخرج للعالم تولستوي، ومكسيم غوركي، وتورجنيف، ودستوفسكي وأندريف، وجوجل، وبوشكن، وكوربوتكين، مهذبي الفكر الحديث، وهادمي الآداب البالية العتيقة.

وقد بدأ هذا الروائي الكبير حياته فقيراً جائعاً مشرداً، ولم يصب أول أمره النجح في حرفته، ولا وجد ما يسد إرماقه بقلمه، حتى بلغ به يأسه من بهجة الحياة وفرحتها إن أجمع أمره على الانتحار، قال عن نفسه أطلقت على رأسي رصاصة من المسدس، ولكنني لم أنجح حتى في قتل نفسي، لقد عرفت الخصاصة في أخبث حدودها، وبلوت الفقر في أقسى غاياته، كنت أجوع أكثر أيامي، كنت لا أجد ما أمسك به ظمأ حياتي اليوم واليومين.

ومضى على سوء حاله أينما طوالاً، حتى كتب هذه الرواية التي نقدمها للقارئ اليوم، فكأنما لم نخرج من قلمه، بل من قلم الأقدار، ومداد الوحي، فكانت آخر عهده بالجوع، وأول عهده بالشبع، وارتفعت به الرواية إلى أوج الشهرة وذروة المجد، وأخذت المجلات والصحف تتناقل روايته، وتنوه بعبقريته، وعدت من أرقى ما خرج من الروايات في العصر الحديث.

في اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر سنة ١٩٠٠، ارتكب الدكتور أنتوني كرجنتزف أحد الأطباء جريمة القتل، وبدا من الظروف التي وقعت فيها الجريمة والحوادث التي سبقتها، ما يشير إلى اضطراب في ذهنية القاتل، فسيق الطبيب إلى مستشفى الأمراض النفسية لفحصه، وهناك عرض على أمهر الأطباء والأخصائيين ولكن ما كاد الشهر يتولى بعد دخوله المستشفى حتى قدم الدكتور كرجنتزف إلى أطبائه مذكرة له بسط فيها ما وقع