للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وإن كان يحزننا أننا سنجبر على ترك موقفنا قبل مرور سائر الموكب.

وقد يقال في تعليل ذلك الفرق أن قد نعلم من الأخبار المنقولة والروايات المأثورة ما جرة في عهد الملكة اليصابات بل في عهد دارا واسكندر بل في عهد الآشوريين والفينيقين. ولكن لا سبيل لنا إلى معرفة ما سيحدث في المستقبل إلا انتظارنا الحوادث وتوقعنا الوقائع. وعلى قدر جهلنا بالغيب واحتجابه عن ظنوننا وأوهامنا يكون فرط تطلعنا إليه وتشوفنا نحوه. ولكن هذا التعليل خطأ محض لأنه لو كان حقيقة لكنا لا نزال نتطلع إلى عمل سياحة في أراضي جرينلندة أو رحلة إلى القمر ونحن لا نرغب البتة في هذا ولا ذاك كذلك لا رغبة لنا البتة في الإفضاء إلى غيوب المستقبل والاطلاع على أسراره إلا أن نجعل ذلك علة إلى استطالة أعمارنا. فنحن لا يهمنا أن نكون أحياء بعد مائة أو ألف عام إلا كما يهمنا أن نكون قد عشنا قبل ميلادنا بمثل هذه المدة ولكن الحقيقة والواقع هو أن كل إنسان يود لو أن الساعة الحاضرة تصبح أبدية سرمدية أجل كلنا يود أن يبقى كما هو وأن الدنيا تبقى كما هي لتمده بأسباب النعيم واللذة.

كلنا يود أن يحرز اللذة الحالية ويستبقها ويستديمها إلى نهايتها القصوى ويكره جداً أن يراها تسلب منه وتنتزع فيبقى مكانها خالياً ثم يعوض بها بدلاً فديدنه في ذلك قول القائل:

خذ زمانك ما أعطاك مغتنماً ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره

فالعمر كالكاس تستحلى أوائله ... لكنما ربما مجت أواخره

إن الحزن والكمد واللوعة والحرقة هي في ألم الفراق وفي مضاضة الاستلاب والانتزاع وفقد المألوف والمحبوب وترك الأوطار والأماني غير مقضية والآمال والأماني غير محققة ينتج من ذلك أن حب الحياة هو علاقة وألفة وليس بغريزة مستقلة. فمجرد الكينونة لا يفي بحاجة الإنسان الفطرية ولا يشفي رغبته الطبيعية. وإنما الذي فيه قضاء لحاجته وشفاء لرغبته هو الكينونة في مكان وزمان وظروف خاصة بعينها. فنحن نؤثر الوجود في هذا الآن - في هذه الجزيرة، من بحر الحياة على أن نختار أي حين مستقبل أو نقتطع سلخة من الوقت قدرها ستون عاماً من الأبد.

فهذا دليل على أن تشبثنا بالحياة ليس متوقفاً على مجرد الوجود أو الوجود بحالة طيبة - ولكنا ميالون بالفطرة أشد الميل إلى البقاء على ما نحن فيه من الظروف والأحوال كما