هي. فالجبلى لا يترك صخرته. ولا الهمجي عشته، كما أنا لا نحب أن نتخلى عما نخن فيه من منهج العيش الخصيص بنا بكل ما فيه من آفات ومزايا ومحاسن ومساويء ولو أعطينا بدله أي عيشة أخرى مهما كانت، وما أحسب أن في الدنيا إنساناً يرضى أن يتبادل العيش والحياة مع آخر مهما بلغت عيشة هذا الثاني من النعيم والرغد والسعادة فلأسهل علينا أن لا نكون مطلقاً من أن نكون غير أنفسنا. إني أعرف أناساً يبلغ من بسطة أرواحهن وفرط تطاولها أنهم يودون لو يعيشون ثلاثمائة عام ليروا إلى أي ذروة من النفوذ والقوة تصل أمريكا هلال هذه المدة. فهذه غاية وراء أقصى مطامح. ومع ذلك لا أنكر أني أود البقاء إلى أن أرى دولة البوربون تنهار فتنهدم وتضمحل فتنعدم. وكلما عجل إليها انقضاء ذلك كان أشهى إلى قلبي وأندى على كبدي.
من شيمة الفتيان والشباب أنهم لا يذكرون الفناء ولا يهجس ببالهم أنهم سيموتون مطلقاً قد يتصور أحدهم أن غيره من الناس يموت وقد يوافق على المذهب القائل بأن:
كل حي لاق الحمام فمودي ... ما لحي مؤمل من خلود
باعتباره نظرة معنوية ولكن يصعب عليه جداً أن يطبق هذه النظرية على نفسه. وذلك أن ميعة الشباب وحدته ونشاطه وشرته وجيشان مرجل الصبا في جوفه وغليانه. واحتدام تنوره وفورانه - كل ذلك مناقض لفكرة الهرم والموت فهو ينفر بالفتى عن هذه الفكرة ويشرد.
فإذا استرسل به الفكر برهة في وادي التأملات والتصورات فعرضت له فكرة الموت بدا له الشبح المخوف على مسافة كأقصى ما ينصوره الذهن تنحسر دون غايتها الأوهام، ثم ما أبعد الخلاف وما أشد التناقض بين بطء قدوم هذا الشبح الغامض المبهم وتراخي مسيره وثقل حركته وبين ساعتنا الحاضرة من اللهو والطرب والمراح وأحلام المنى وفرحة الأمل! فنحن نرقب أقصى حافة الأفق وأنأى مرمى الحدق ثم نقول في أنفسنا أي مسافة مترامية الأنحاء متنراخية الأرجاء لا بد من طيها قبل أن تبلغ غاية سفرنا البعيد ونلقي عصا التساير على ساحل الحياة. هذا ما نقوله لأنفسنا ونحدث به ضمائرنا وبينا نحن كذلك إذا بالضباب تحت أقدامنا من حيث لا نشعر ولا نتوقع وإذا بظلمات الهرم تلفنا وتغشانا. ماذا جرى؟ لقد اختلط شطرا العمر إحداهما بالآخر وامتزجا وتداخلا واندمجا وإذا بالطرفين