الأقصيين قد تلاقيا ولم نستمتع بتلك الفترة اللذيذة التي كانت تتراءى بينهما لعين خيالنا والتي كنا نعول عليها ونعتمد وبدل الذي كنا ننتظره من خريف الكهولة وحدائقه الحواء وأوراقه الصفراء وأزاهيره اللمياء وأصائله الذهبية وشمسه المدنفة العليلة التي آذنت بالمغيب وقد نفضت على الأفق الغربي ورساً مزعزعاً:
ولاحظت النوار وهي مريضة ... وقد وضعت خداً على الأرض أضرعا
وظلت عيون النور تخضل بالندى ... كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا٣
يلاحظها صوراً إليها روانيا ... ويلحظن ألحاظاً من الشجو خشعا
كما لاحظت عواده عين مدنف ... توجع من أوصابه ما توجعا
وبدلاً من ظلال عشيات هذا الخريق المنتظر المملوءة بأصداء الشباب الراحل وهمسات الأبدية القادمة الممسكة الأرجاء المعطرة الجوانب بما لا يزال يعبق بأردانها من نفحات لذات الصبا الدابر والنعيم الغابر وما لا يزال يهب عليها من عوالم الذكرى من شذا عهد الشباب وعصر اللهو والبطالة - بدلاً من ذلك كله لا نبصر إلا ضباباً بارداً ثلجياً يلف كل شيء ويغشى جميع الكون بعد انقضاء الشباب وذهاب روحه. وحينذاك نظل بحالة إذا نظرنا أمامنا وجدنا قفراً خراباً وأسوأ من ذلك أنا إذا التفتنا وراءنا وجدنا تلك المناعم والمطارب التي كان يكسوها الصبا بهجة ورونقاً وتلوح لعين الشباب بديعة رائعة جميلة قد عادت في عين الشيخوخة غثة تافهة حقيرة وعلى ذلك أن ملاذ حياتنا قد بليت ورثت وذهبت في فيافي الزمن أو لعلها قد حولت نحونا جوانبها المقفرة ونواحيها الجدبة الموحشة. أو لعل ما كابدناه من ضرباتها المتولية وصدماتها المتواترة قد أوهنتنا. ونهكتنا وأبلتنا فلم تترك بنا رغبة أو ارتياحاً لملاقاتها بعين الذكرى. ولا غرو فأي لذة في استثارة الأدواء الكمينة ونبش الأوجاع الدفينة فمن ثم ترانا لا نريد أن نجدد شبابنا كما تتجدد للظى السعير جلود أهل جهنم فحسبنا ما جرى وكفانا. فدع الشجرة الساقطة لات تقمها. وأغلق الكتاب واختم الحساب لا تفتحه ولا تفض ختامه آخر الأبد.
وقد شبه بعض الشعراء الحياة باستكشاف طريق كلما تقدمنا به ازداد ضيقاً وظلمة ولم يترك لنا مجالاً للرجوع فيه من حيث أتيناه، وفي نهايته نختنق لانبهار النفس على أني شخصياً لا أشتكي كثافة الجو كلما دنوت من النهاية ولكني أشتكي قلة الأنيس وفقد العماد