للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قومه، ومطالب أمته، ولكن لما خطت مدنيتهم خطواتهم، وبلغت حضارتهم بعد شأوها، وجب أن تنقح هذه الأنظمة وتهذب، إذ أصبح نير تلك القوانين القديمة من الثقل بحيث كان من الجائز لهم أن يرفعوه عن كواهلهم، ويضعوا وزره عن ظهورهم، وإن الأنظمة التي اشترعها القرآن، والتي كانت المعبرة عن حاجات العرب في عصر النبي، لم تصبح كذلك بعد تصرم عدة قرون، ولما كان هذا الكتاب في آن واحد مجموع شرائع دينية، وأنظمة مدنية سياسية، وكان من أصله لا يقبل تحويراً ولا تبديلاً، فقد كان من الأمور غير الممكنات أن تنقح أجزاؤه الأساسية، ولم تبد نتائج انشقاق العرب، ولم ينكشف للعيان عواقب انقسامهم، ألا يوم أن بدأت قوة العرب في الارتجاف والاضطراب، إذ أحدث انشقاقهم انتكاسات دينية، كان يراد بها على زعمهم تجديد شباب الإسلام، وإعادة زهوه، وإرجاع غضارته وريعانه، وما كان يقصد بها ألا إلى رده إلى نص القرآن وفصه، فلما كانت تلك العصور الزاهرة المشرقة، عصور خلافتي بغداد وقرطبة، عرف المسلمون جد المعرفة كيف يدخلون تحت رقابتهم وتصرفاتهم الإصلاحات التي أوجبتها حاجات الأمم التي رضيتها.

ولم تظهر صعوبة سن الإصلاح بأجلى مظهرها إلا في أنظمة العرب السياسية فإن هذه الأنظمة التي جعلت على رأس هذه الدولة حاكماً يصرف في يده جميع السلطات الحربية والدينية والمدنية. كانت هي وحدها المذللة تأسيس دولة عظمى، ورفع بنيان مملكة مترامية النواحي والأطراف، على أنها كانت مع ذلك أقل العوامل ملاءمة لتاكيد بقائها، فإن لتلك الملكيات المطلقة التي تجتمع كل سلطانها في يد واحدة قوة عتيدة في الفتح لا تغلب ولا تقهر، ولكنها لا تستطيع أن تنجح إلا على شريطة أن يكون على رأسها في كل حين رجال آية في العظمة والمراس والتفوق، فإذا أقبل ذلك اليوم الذي يعز فيه عليها رجل من هؤلاء الرجال، فاعلم أنها لا تلبث إلا عشية أو ضحاها حتى يتداعى بنيانها حجرة حجرة وتتساقط قواعدها لبنة لبنة.

وكان في مقدمة النتائج التي نشأت من النظام السياسي الفاسد الذي كانت عليه أمة العرب، تجزئة مجموع دولتهم، وتمزيق شملها، وتفريق أجزائها، إذ كان الولاة ينوبون في الولايات عن الخلفاء، قابضين مثلهم على كل السلطات الحربية والدينية والمدنية، ومن ثم لم يلبثوا