للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والأحزان الذي يملأ الحياة وينشأ من حاجاتها وضرورياتها منفصلاً عن الحياة ذاتها وأنه لا يرمي إلى غرض مقصود وأنه نتيجة الصدف ليس إلا.

ولست أعرف أكذوبة هي أسخف مما تؤيده تلك المذاهب الفلسفية القائلة بأن الشر سلبي في ماهيته وكنهه والخير إيجابي. والحقيقة هي العكس فإن الشر هو الإيجابي الذي يقع في الشعور فيجعل نفسه محسوساً ملموساً. والخير هو السلبي. أو بعبارة أخرى أن السعادة والرضا والراحة ما هي إلا سد الحاجة وزوال الألم. وهذا هو السر في أننا إذا أصبنا اللذة وجدناها دون ما كان ينتظر وإذا أصبنا الألم وجدناه فوق ما كان يتوقع.

يزعم الزاعمون أن اللذة في الدنيا ترجح بالألم أو على الأقل تعادله. فإذا أراد القارئ دليلاً قاطعاً على بطلان هذا الرأي فليتصور حيوانين أحدهما يفترس الآخر، وليتوهم لذة الأكل وعذاب المأكول وليوازن بين مقداري هذين الشعورين المتناقضين. هل يجد أدنى نسبة بين مقدار اللذة ومقدار الألم؟

ونحن نرى أن أحسن عزاء في المصيبة هو تدبر المصاب مصائب من هم أسوأ منه حالاً. ولكن أي دليل في مثل هذا العزاء على شقاء العالم وبؤس الحياة.

ومن المصائب التي لا يستهان بها شدة ضغط الوقت علينا ومطاردته إيانا وسوقه لنا سوقاً عنيفاً لا يدعنا نتنفس كأنه السجان يدفعنا إلى العمل بالسياط فإذا ما خفت عنا وطأته هنيهة فإنما يفعل ذلك ليسلمنا إلى الضجر والسآمة.

ولكن المصيبة لا تخلو من النفع والفائدة فكما أنه لولا ضغط الهواء الجوي على جسد الإنسان لانصدع ذلك الجسد وتمزق فكذلك لو رفعت عن الناس كافة الاحتياجات والمشاق والشدائد فأصبحوا الناجحين الفائزين الموفقين في كل ما عالجوا وتعاطوا لانتفخوا خيلاء وغلواء فأصبحوا - وإن لم يتصدعوا ويتمزقوا - غاية في الخرق والسفه والحماقة، ولا يبعد أن ينالهم الخبل والجنون فلا غرو إن كان كل امرئ في حجة إلى قدر محدود من الهم أو العناء أو الألم في جميع أوقاته. فالسفينة بلا صابورة (ثقل من حجارة أو حديد يجعل في قعر المركب لتخفيف فعل العواصف) تكون مزعزعة هوجاء طائشة.

ولا مراء في أن الكد والنصب والعناء هي نصيب السواد العظم من الخليقة مدى أعمارهم ولكن هب أن الأوطار والمآرب نيلت بمجرد حصولها في النفس فكيف يقضي الناس أيامهم