للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فطاح بملايين النفوس والمهجات.

ونحن اليوم عائدون فآخذون في ذلك التاريخ العظيم ونحن له أشد روحاً وأخف نشاطاً، لأنا نرى في خلاله دروس الحكمة تلقى من فم التاريخ، ونشهد في تضاعيفه مزايا العظمة تطل من الماضي إلى الحاضر، واثبة إلى المستقبل، فدافعة إلى الأبدية.

دخل المترجم به في سلك القضاء، بتلك الشخصية القوية التي ما أسند إليها عمل عظيم، إلا استكان لها، وتشكل بشكلها، واصطبغ بصبغتها، وتضاءل إزاء قوتها، وما كان أكبر الأعمال، وأرفع المناصب، إلا ليضيق بصاحب الشخصية القوية، وإن اتسع لألوف الناس، ورحب بعديد ضعاف النفوس واحترام النفس من أسمى العظمة النفسية، ونحن لشد ما نروح معجبين مكبرين، إذا وقفنا على رجل من عرض العامة، في قهوة أو منتدى، يستمسك برأيه، ويستند إلى حجته، لا ينزل عنهما ولا ينكص، وقد اجتمع الجلوس كلهم على نقيض رأيه، واتفقوا جميعاً على دحض حجته. بل إنك لتمتلئ إعجاباً وإكباراً لشأن الرجل العامي الحقير، يجيئك بكيس نقود فقدته، ويأبى أن يقبل منك على ما أحسن أجراً ولا عطاء، ويرفض أن ينال منك على ما صنع مكافأة ولا جزاء.

وما أروع الشخصية القوية في منصة القضاء، وما أشد جلال القاضي المهيب، إذا اجتمع جلاله بجلال مقعده، والتقت روعة شخصيته، بروعة سدته. وعلى قدر قوة الشخصية في القضاة، تكون قوة الإنكار في المجرمين والجناة، حتى أنك لتلقى المتهم إزاء القاضي القوي الشخصية، مضطرباً مذهولاً حائراً مذعوراً، إذ يخيل إليه أمام تلك القوة الخفية - قوة الجاذبية بين القوي والضعيف إن قد انفتحت مغاليق نفسه، وانكشفت حيالها مجاهل ضميره وبدت أعماق سريرته، وأنه قد أصبح بين يدي القاضي، وكله ثغور تطل منها ذنوبه، وتشرف من خلالها جرائمه، حتى إذا بلغ منه تأثير تلك القوة السحرية كما يبلغ من المنوم تأثير مغناطيسية المنوم، أدلى إلى القاضي باعترافه وهو هادئ ساكن، وأشهده على جريمته، ليتخلص من ذلك التأثير الشخصي الذي يصدمه به القاضي ويهدم فيه كل عزيمة للإنكار، وكل إصرار على التنصل والتكذيب.

وكم من جرائم ما كان ليجدي في اكتشاف جناتها دقة التحقيق، وما كانت لتغني في الاهتداء إلى مرتكبيها شدة التحري والاستقصاء، وقوة البحث والاستهداء، ولا ذكاء الشرطة وحيلهم،