للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فإن الخلفاء الراشدين فطنوا ببراعتهم السياسة التي أندر ما توجد بين أشياع دين جديد وصحابة عقيدة حديثة إلى أن الشرائع والأديان لا يتهجم بها على الناس. ولا تدخل عليهم بالعنف والإكراه. وقد شهدنا العرب في كل مكان دخلوه. وكل بلد فتحوه. في الشام وفي مصر وأسبانيا. يعاملون أهلها بالحسنى. ويأخذونهم بالعرف. ويداورونهم بأعظم اللين وأحسن الوداعة. تاركين لهم شرائعهم وقوانينهم ودياناتهم. غير ضاربين عليهم في مقابل السلم. الذي ضمنوه لهم والأمان الذي أحلوهم فيه. إلا أتاوة زهيدة. وحزبة طفيفة. كانت في أغلب الأحوال أقل من تلك الضرائب التي كانوا يرفعونها من قبل. ولم تشهد هذه الأمم فاتحين يوماً بهذا التسامح. ولا غالبين بهذا اللين وذاك الحدب. ولا عرفوا من قبل ديناً بهذه العذوبة وهذا اللطف.

وكان هذا التسامح وهذا اللطف. وإن تجاهلهما المؤرخون وبالغوا في إنكارهما، سبباً من أسباب السرعة التي بها امتدت فتوحات العرب. وداعياً من أهم الدواعي التي ذللت في كل مكان نشر دينهم وشرائعهم ولغتهم. ونحن نعلم أنها استقرت واشتدت أصولها بين الأمم التي اعتنقتها وسارت على هديها وأنها وقفت بعد ذلك حيال كل هجوم ونهضت إزاء كل غارة. وقام منارها بعدما ذهبت ريح العرب من مسرح العالم.

وأنت لا تجد هذه الحقيقة الرهيبة إلا في حال مصر. فإن الفرس واليونان والرومان الذين تسودوا عليها. وبسطوا فوق أرضها أروقة نفوذهم، لم ينجحوا يوماً في هدم مدينة الفراعنة القديمة. ولم يتوقفوا إلى إسقاطها وإقامة مدنياتهم على آثارها.

ثم ننتقل إلى أسباب أخرى غير تسامح العرب. وعذوبة سلطانهم. وحسن ملكتهم. وما رجع إلى ذلك من نجح دينهم وثبات الأنظمة التي استخلصت من هذا الدين. فنقول إن هذه الأنظمة كانت من السهولة بحيث توافق حاجات الطبقات المتوسطة في الأمم التي استكانت للعرب. فإذا حدث أن هذه الأنظمة لم تلائم كل الملائمة هذه الحاج. كانت العرب أعلم بتحويرها وتذليلها كما تقتضيه الضرورات. ولذلك ترى بين الأنظمة الإسلامية في الهند وفارس وبلاد العرب وبلاد المغرب ومصر فروقاً. هي في بعض الأحيان كبيرة. وإن كانت ترجع إلى قرآن واحد. وتائم بهدى كتاب فذ.

والآن وقد بلغنا بك حيث انتهى العرب من فتح العالم. فلم ننته بعد من بحثنا الذي أخذناه