للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بين الفريقين غيره. أولم يكن الرجوع إلى آرائه في الأحكام السابقة إليه بسبيل هذا المبدأ. وانتقاله اليوم إلى سلك القضاء لا يحزننا بل يملأ صدورنا فرحاً واغتباطاً. إذ به تزول عنا بقية الوصمة التي لم تبرأ حرفتنا من عابها حتى الآن. فلو قال لنا قاض من القضاة بعد اليوم إن فيكم من لا يصلح لشيء أجبناه. بل إن فينا من شرف منصب القضاء.

فلما انتهى الأستاذ من هذه الخطبة البليغة. وانتهى الحضور من التصفيق والهتاف ودلائل الاستحسان والإعجاب. قام في أثره صاحب الترجمة يرسل بينهم ذلك الصوت العذب السحري وينثر فيهم ذلك البيان الجزل السحباني. يشكر لهم احتفالهم به وشهادتهم بفضله وإقرارهم بنبوغه وعبقريته بل إن شئت قل قطعة من اعترافاته وناهيك باعتراف العظماء، قال:

إخواني وسادتي - قد عهدتموني وليس من شيمتي الحسد، إذ ليس الحسد بنافع أحداً مطلقاً، كما أنه لم يكن من طبعي الافتخار، فأنا آمن بما عهدت فيكم من أن ترموني به. ولكني أرى نفسي اليوم على غير ما طبعت عليه، أراني حاسداً نفسي فخوراً بما أنا اليوم فيه. إذ كنت موضوع اهتمامكم ورهين عنايتكم. وكنت أود لو أني بينكن أهنئ غيري من بين صفوفكم، بما يناله عن جدارة واستحقاق.

إخواني وسادتي - قد كنت أعرف من نفسي القدرة على البيان. وتقرير الحقائق، بل كنت أعتقد - ولو كنت مخطئاً في اعتقادي - أني على شيء من البلاغة والفصاحة واللسن، وما عهدت نفسي كالآن عيباً محصراً محتبساً عاجزاً عن القيام بما يجب لحضراتكم في بيان مقام الشكر لكم. وأراكم اختلفتم في الوجهة وتباينتم في الأسلوب وقد اتحدتم في المعنى واجتمعتم فماذا يسعني من أساليب البيان لأداء ما يحق لكل منكم، بماذا أشكركم وقد هجرت الكلام شهراً، ولولا أن مظاهر السرور على وجوهكم تدفعني للمقال - وإن لساني محض معبر عما يليه إحساسي الخالص ما استطعت الكلام الآن بعد أن اقتنعت من نفسي بأني عاجز عن مجاراة كل منكم في حلبة الفصاحة والبيان.

إخواني - أراني لا أزال واحداً منكم. وإن نهاية الشرف عندي أن تقبلوني كذلك لأنكم أنتم الذين تخدمون الحقيقة ولا زلتم تجدون في طلبها. ولم يكن من أمري إلا أن ضعفت عن مجاراتكم واجتثاث السير معكم في هذا الطريق المحمود فجلست وسرتم.