للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

المؤرخ ذلك معرفة يقين وأن يعلمه علماً ليس بالظن فمن قائل أن أول ما عبد الإنسان آباؤه وأجداده وذلك أنه لما رأى ريب المنون يتخطف من كانوا معه من أهليه وذوي قرباه ولم يدرك ما هنالك من بعث ونشور خاف موتاه ثم عبدهم - ومن ذاهب إلى أن الإنسان استهول قوي الكون وخافها فساقه خوفه إلى التماس آلهة يذهبون عنه الروح فجعل يعبدها في الأنهار والأشجار والشمس والقمر وسائر الكواكب وما إلى ذلك فأفرخ ذلك من روعه وسكن من خوفه - وقريب من هذا ما قاله آخرون من أن الإنسان لما أحس ضعف نفسه وضؤولته حيال هذا الوجود وضخامته حاول التماس المعونة فيما يعالج من شؤون الحياة فطفق يقدس ما يظنه الها أو ما فيه روح من عند الله ويتقرب بالقرابين والذبائح وكل ما يظنه مجتلباً رضاء الآلهة ومعونتهم - أما ما ذهب إليه أكثر النظار من المتقدمين والمتأخرين وكات تتفق عليه كلمتهم فهو هذا.

فرض الفلاسفة أنه لو ولد إنسان في جوف الأرض فترك ثمت حتى بلغ أشده وكمل عقله ثم اخرج بغتة إلى ظاهر الأرض فإذا الشمس بارزة في موكب لألائها نهاراً وإذا الكوكب الوقاد قد طلع له ليلاً كأنه ماسة تلتهب بلألاء أبهر مما نرى نحن - نحن الذين حجبت الألحاد والكفريات - فيشرق الكوكب في نواحي نفس ذلك الإنسان كما يشررق في نواحي الأفق ويظهر كأنه مقلة في وجه السماء تنظر إليه من أعماق الأبدية وتنم له عن رونق السر الأزلي القديم - ألا ينظر هذا الموحش إلى هذا المنظر الباهر كما ينظر الشاعر وإن لم يقدر على القصيد ثم ينفذ بصره الثاقب إلى ما أودع الله ذاك المشهد من روعة الجلال فيخر له ساجداً.

فهذا هو أصل غريزة الدين وهذا هو ما كان من الإنسان الموحش القديم حتى إذا دبت الأيام ودرجت الليالي وجاء اللاحق على أثر السابق وتلقي عنه دينه وتقاليده محرفة غير منظور فيها إلى اللب والجوهر كما هو الشأن في التقليد والمحاكاة وتلوثت فطرة الإنسان وضعف إدراكه ونمت فيه غريزة الطمع والأثرة أخذ هذا السر يتضاءل وذلك الشعور الفطري السليم يختفي وقامت الأصنام والتماثيل مقام هذه المخلوقات السماوية القدسية فإذ ذاك يرسل الله أناساً ذوي بصائر نافذة وقلوب ذكية ثاقبة يفطنون إلى انحراف الإنسان عن الجادة ويقيمونه على الطريق المتسقيم وهكذا أرسل الله الأنبياء والرسل تترى لئلا يكون