للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أفئدتنا ما تعبر عنه من تلك الإحساسات فنستشعرها بغتة حتى ترانا نحزن أشد الحزن مثلاً بلا أدنى باعث هنالك على الأسى. اللهم إلا سماعنا بضعة أصوات وألحان تذكرنا - لا ندري كيف - بحركات المحزونين وهيئاتهم، فلقد وري عن بعض ملوك الدانمارك أنه جلس مرة يسمع لحناً حماسياً فبلغ من شدة تأثره واهتياجه أنه وثب إلى قدميه فانتضى حسامه فذبح خمسة من أتباعه الحاضرين. مع أنه لا حرباً يشهد ولا عدواً يشاهد بل السلم ينشر فوقه أجنحته والأحباب حوله جالسون، وكم أفاضت الموسيقى من سجال العبرات على خدود الملاح في الأعراس، وكم هاجت الحنين وأوقدت نار الذكرى في قلوب الأحبة الناعمين تحت ظلال الوصل الذين قد نظم عقدهم وأليف شملهم سلك الاجتماع بعد الفرقة، وبرد أحشاءهم فرح اللقاء بعد الحرقة.

والعلة في وجود هذه الملكة - ملكة تقليد إحساسات الغير في الإنسان - هي أنه لما كان الآدمي أجبن المخلوقات وكان منذ أقدم الأزمان يوئس الخطر في كل ما ليس له بعد ألفة من الخلائق فقد أصبح إذا لقي واحداً من هذه الكائنات شرع يقلد حركات وجهه وجسده ليستدل بذلك على ما عساه يكون إحساس هذا المخلوق الغريب وعاطفته وما يحتمل أن يكون الشر الذي يضمره له. بل إن الإنسان لم يكفه أن يضع ذلك بالحيوان حتى صنعه بالجماد فكان يديم النظر إلى الكائنات الطبيعية يحاول أن يترجم حركاتها وظواهرها ومميزات خواصها ويستدل بهذه على ما تكن وتستر من نواياها ومقاصدها وكان يغريه بذلك اعتقاده الكاذب أنه ليس في الكون شيء جامد بلا روح. ويقيني أن هذا هو أصل ما يسميه المفكرون الآن عشق الإنسان للطبيعة والتداذه بمناظرها والفرح الذي يخامر القلب عند رؤية السماء الزرقاء الصافية. واللجنة المتدفقة الطامية. والصخور الشماء. والحدائق اللقاء. والرياح العواصف. والرعود القواصف، والزوابع. والنجوم اللوامع والشقاء المطير، والصيف النضير. وما إلى ذلك من شتى صور الطبيعة. وأشكالها. ولا ريب عندي أنه لولا ما سبق لنا من عادة الهيبة والخوف وحملها إيانا على الارتياب بالكائنات الطبيعية والظن أنها تضمر من المعاني خلاف ما تظهر وإنها تستر وراءها سراً مجهولاً لما كنا واجدين في رؤية الطبيعة من الجذل والابتهاج ما تجده الآن. كما أنا ما كنا لنرتاح ونطرب ونسر برؤية بني الإنسان والحيوان لولا ما سبق ذلك من ارتيابنا وخوفنا أفراد هاتين القبيلتين