للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والتراجع والفساد، وأصبحنا لا نستطيع نرى دلائل الحياة القوية الناهضة تقترب منا أو تدنو من أنظمتنا وآدابنا وآرائنا ومبادئنا، ولا شك في أن مؤرخي الأجيال القادمة سيحارون في إيجاد اسم جديد لهذا الانحطاط المدهش المخيف.

وبعد فإنا آخذون في شروح مستفيضة نتناول فيها بعض فروع هذا الانحطاط، ونصدع بالحكم الأخير على هذا الجيل المتراجع المتقهقر، وكذلك أبى التاريخ إلا أن يسجل العار على هذا الشعب المسكين، ويعطي لأبنائنا صورة تامة لأبنائهم، وكذلك يشيع هذا الجيل إلى المقبرة. . . ويدرجه في صمت وحزن وألم. . . .

١ - انحطاط الآداب

إن أكبر مقياس تقاس به روح الأمة وعقليتها ومبلغ ما يجري فيها من دلائل الحياة والإحساس هي مجموعة الآداب التي تتجلى في تواليفها وندواتها وصحفها وكل وجوه تفكيرها، وما كانت دراسة الآداب التي نعيش في أمة من الأمم إلا دراسة لحالتها الاجتماعية، هي بحث مستفيض في مقدار عقليتها وحيويتها، وليس الشاعر والكاتب والمفكر والخطيب إلا النبض الخفاق الذي تستطيع أن تلتمس فيه شعور الأمة أو خمودها، وليست قصيدة الشاعر إلا مظهراً من أكبر مظاهر الحياة للوسط الذي خرجت فيه، ولهذا كان التطور في الآداب هو في ذاته أكبر تطور في الاجتماع وكان العمل على النهوض بالآداب هو العمل على النهوض بالحياة، إذ كانت الحياة الإنسانية المتحضرة تعيش على الفكر أكثر مما تعيش على الخبز، وفي تهذيب الفكر تهذيب لأساليب العيش، وليس هناك أجدى على الأمة المتأخرة المتقهقرة من العمل على تغيير قيمة آدابها، لأن الآداب يجب أن تتجدد كالأزياء، يجب أن يقتل القوى منها الضعيف، ويخنق الصالح منها الفاسد، وليس في الحرب الخفية الناشبة بين الأدباء وأهل الفنون إلا أكبر عامل على تنقية الآداب ورقيها، لأن ما يجري على الناس من التنازع على الحياة يجري على آدابهم من التنازع للسمو والانتصار.

وأنت فلا تجد وسطاً من الأوساط ينحدر ويتقهقر إلا إذا قذف بالآداب - وهي خلاصة الماضي وروح الحاضر ومبلغ ما أخذ الناس من العقل والإحساس بالحياة - إلى هوة الغفلة والتهاون والاحتقار، وليس الفارق الأكبر بين المتحضرين وبين الذين يعيشون في طفولة