للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وما أدراك ما القارعة، أما يومها فيوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وهو إن لم يكن يوم النفخ في الصور. فإنه يوم تحصيل ما في الصدور، وإن لم يكن يوم يبعثر من في القبور فإنه يوم يبعثر الناس في القبور. وهو المدفع حسبه قوة أنه من الحديد، وحسب ما يحويه قول الله عز وجل فيه بأس شديد، وحسبه رعباً أنه شكل عصري من عذاب الخف القديم أعده الله لهذا الإنسان الجديد، فكم من حصن منيع إعتزبه أهله اعتصاماً، فتركهم فيه تراباً وعظاماً، وكم من قلعة شامخة اغتر الجند بقواها، فدمدم عليهم بذنبهم فسواها.

وأما الرصاص فهو من سماء الموت حب غمامة، وله صفير كأنه ترنم الشيطان ببعض أنغامه، ولو أن عاصفة كنست أرض الجحيم لما شوت الوجوه بأشد من ناره. ولا حملت من من هناك إلا ما تحسب هذا الرصاص من حصاره وغباره، يثور كما تثور الأعاصير، ويندفع كما تندفع المقادير، ويقع على الأجسام بالأجل أو يطير، ويتناثر كأن في السماء نجماً تفتت فسقط، أو كأن قطعة ذابت من الشمس فألقت على وجوه الناس هذه النقط، أو هو فوج من ذباب النار، هبط إلى هذه الدار، فلا هم له إلا الجلود وإنضاجها بلذعه، والعيون وإخراجها بنزعه، والعروق واستخلاصها، والدماء وامتصاصها، والأرواح بعد ذلك واقتناصها. وكأنه زفرات غير أنها لا تخرج من الصدر بل تنزل فيه، ولولا أنها تشويه ولا تشفيه، وهو أوقع في الرؤوس من الأوهام، وأنفذ في الأغراض من مكائد الأفهام، وأحر على الأكباد من كل ما يضرم غضب الجبار المغيظ، وما هو إلا العذاب الرفيع إن كان المدفع هو العذاب الغليظ. . .

وهناك من الروع ما لا يحصيه الوصف ولا يحصله، وإن عرفت آلة التصوير كيف تجمله فليس يعرف القلم كيف يفصله، ولعمري لو كان البحر الأسود في المحبرة، لما بلغ في وصف هذه المقبرة، غير أنها الحرب التي ابتدعها العلم لهلاك الإنسان، والقوة التي رزقها العقل فكانت بلاء على الأبدان. قوة المعجزات التي أركبت هذه الذبابة الإنسان على متن الغمام، وطوت لها من السماء بين جناحي النور والظلام، فإذا سمت الطيارةخفض لها السحاب جناح الذل، وأقبلت الملائكة تسأل ربها ما هذا الجزء من العالم بل ما هذا الكل، وما هذه الجرادة التي رأسها في ظهرها، وسرها في جهرها، بل ما هذه الحياة الأرضية