في فؤاده، وحسبه أن يشعر بروح الله فيه وهو لا يريد أن يكذب الملايين الكبرى التي سبقته وعرفت منشىء الأكوان قبله، ولكن المفكر الملحد ليس إلا رجلاً مزهواً بنفسه، معجباً بفكره، مغتراً بقوته، وهو يأبى إلا أن يعيش على المنطق، ولا يقبل أي فكرة أو إحساس إلا إذا جاءت في قطار العقل، وإكسبريس المرئيات، كأن هذا العقل هو الذي اخترع نفسه، وكأنه هو الذي وضع الكواكب، وكأنه هو الذي سن القوانين التي يكره على الخضوع لها، وكأن هذا العقل هو الذي ينطفئ بنفسه عندما تأتي ساعة الخمود الأبدي على أن هذا الزهو الذي يعيش إلى جانب الإلحاد ليس بعد إلا زهواً إنسانياً، وهو لذلك قليل العمر، متغير اللون، ضعيف الأعصاب، مريض القلب، ولا يلبث أن يسقط مغشياً عليه عندما تريد الطبيعة أن تداعبه، ولشد ما يفرح المؤمنون عندما يرون ملحداً مؤمناً، لأنهم يعلمون إذ ذاك أن الطبيعة قد انتقمت لنفسها ولهم، والرجل الملحد ينتهي دائماً برجل أعمق إيماناً من الذي عاش دهره في الحياة مؤمناً، وإيمان الملحدين لا يزال إيماناً قوياً مؤيداً بالإعتراف. قائماً على الإذعان والإستسلام أشبه بإيمن الرجل بقوة عده الذي حطمه في المعركة تحطيماً، ونكل به نكالاً أليماً، ولكنه وا أسفاه إيمان متأخر، كثيراً ما يجيء بعد الأوان، لأنه أغلب ما يكون على فراش المرض، أو في اللحظة التي يتشاجر فيها الأحياء والملائكة على جثته فيظفر بها مندوبهم، وهو صديقنا عزرائيل الكريم وينهزم الأحياء باكين معولين.
كان هنريك هايني، الشاعر الألماني الكبير. ملحداً في رأس الملحدين، وكان زعيم الشعراء المزاحين الماجنين، لأنه يأبى إلا أن يرسل النكتة ولو في أحرج مواقف الحزن والألم - وفي تلك اللحظة التي يجهد الإنسان ذاكرته الذابلة المضمحلة لتلاوة اسم من أسماء الله، ويحاول بكل قوى الدرجة الأخيرة من الصحو واليقظة أن يستعيد آية من آيات الكتب السماوية - كان هايني لا يزال على شفتيه غمغمة نكتة حلوة من نكته، وهذا خلق غريب يكاد يكون لا مثيل له في تاريخ المحتضرين، ولكن هذا الملحد المزاح الذي لم يشأ أن تفلت السماء من مزاحه ودعابته، هذا الشاعر المتهكم بكل من حوله، الهزاء بكل صفة من صفان الحياة - الضاحك من أعدائه، الساخر من أصدقائه عاد آخر أيامه فأذعن إلى القوة العظيمة التي تركته في سريره لا يبرحه - وذهبت بنور عينيه، وأرسلت المرض يأكل سلسلة