للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولعله إلى الآن خالي الذهن من ناحيتي - فاتفق ذات ليلة أن تأخرت في مجلس سمر مع صحابتي فجثت في موهن من الليل أدق الباب، فخرج عليّ من البيت غاضباً متجهماً وطلب إليّ تحقيق شخصيتي، وعبثاً حاولت أن أبين له أنني من أهل البيت وأسمي له أفراد الأسرة بأعيانهم، وطفقت ألتمس إليه أن يأخذ قولي صدقاً، ويجيز لي الطريق، ويغني عني الوقوف طويلاً في قرة الليل، ويشفق على أن تصيبني وعكة من أثر برد الشتاء، فلم تكن توسلاتي وضراعاتي لتزحزحه عن فكرته الراسخة في ذهنه وهو أنني رجل غريب جئت لمأرب شرير في قرارة نفسي، ولو لم أستصرخ أهل البيت في تلك الهدأة وأثير الجيران من المضاجع وأعدو إلى أقرب شرطي من الناحية استعديه على عم سرور، إذن لأصبحت الغداة واقفاً بالباب أحمل الزمهرير في فؤادي.

ولكني عمدت بعد ذلك إلى اتخاذ الحيطة لنفسي حتى لا أقع في مناورة كتلك معه فاعتدت إذا خرجت في الأصيل أن أذهب إليه وهو جالس عند الباب مهوماً في محضر من الملائكة، فأنهضه من مكانه وأنظر له ملياً في وجهه، وألتمس إليه أن لا ينساني وأتضرع إليه أن يتذكر معارف وجهي وتضاعيف صوتي ولهجتي ولم تكن هذه الوسيلة لتبعثني على الطمأنينة، فاجتهدت في أن أحمل دائماً في جيبي شهادة ميلادي وبطاقتي، مخافة أن يكون الشرطي حديث العهد بالناحية فأروح ضحية جهل الشرطي وأمانة عم سرور، وأبيت في الطريق مقروراً حتى يتنفس الصبح.

ولما ظهرت تلك البراعة منه في أمر الحراسة، أردنا أن نبتذله في الخدمة، فكان فيها القدوة المثلى والمثال المحتذى، إذ بلغ من ذكائه أنه كان لا يعرف كم قرش تحتويه القطعة ذات الخمس، وكان يكرهنا إذا أردنا أن نرسله في شراء حاجتين معاً على أن لا نعطيه ثمنهما إلا قروشاً، ونضع ثمن واحدة منهما في يد من يديه، وقيمة الثانية في اليد الأخرى، ونشيعه حتى السلم تذكيراً، ونستحلفه إلا ما أفاق قليلاً، ونجلس ندعو الله أن يعيده سالماً ويرده إلينا بالطلبتين آمناً، ولكنا لا نلبث أن نراه طالعاً علينا بشربة من الملح الانكليزي، وكنا سألناه شراء ملح من ملح الطعام، أو ورقة من البن وكنا طلبنا إليه ابتياع شيء من البندق، وكذلك طفق يشتري لنا الأشياء التي تلوح له في حلمه أو التي توحي إليه نفسه أنها أفضل لنا من سواها، وكذلك جعلنا نخسر كثيراً من المال بسببه، فكأنه كان يعارض أمانته في الحراسة