للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن العجائب أن سقوطها كان بسب أكرومة فعلها المأمون بن دي النون مع ابن فردينند هذا فعادت هذه الأكرومة عليه وعلى دولته بالو بال وكانت سبباً في زوال ملكه وضياع الأندلس كلها من يد المسلمين، ذلك أن فردينند لما أحس بدنو أجله في سنة ١٠٦٥ م (٤٥٨هـ -) قسّم مملكته وهي قشتالة وجليقية وليون بين أولاده الثلاثة: دون شانجه ودون غرسيه والأذفنش، غير أن الأول اغتصب نصيب أخويه وحاز المملكة كلها لنفسه ففر غرسيه ولاذ بابن عباد في إشبيلية فأمده بالمال والرجال لاسترجاع نصيبه، وأما الاذفنش فقد هرب من الدير الذي حبسه فيه أخوه بمدينة برغش واستجار بالمأمون ابن ذي النون فأكرم مثواه وخصص له قصراً فاخراً في أرباض طليطلة خلف النهر، ولا تزال خرائبه موجودة للآن بقرب محطة السكة الحديد ناطقة بما كان فيه من عظمة وجلال.

مضت الأيام والشهور وهذا الأمير الإسباني في ضياف ملك المسلمين على أحسن حال، وقد روى مؤرخو الافرنج أن المأمون ذهب في يوم من الأيام مع رجالاته وكبار قواده إلى زيارة هذا الضيف الكريم فأخذوا في المسامرة والمنادمة في روضة القصر ثم جلسوا تحت الأشجار الوارفة الظلال وهبّ عليهم النسيم العليل، فنام الأمير الإسباني أو تناوم بينما كان سادات العرب يتجاذبون أطراف الحديث حتى انساقوا إلى الكلام على حصانة المدينة واستحالة أخذها مهما كانت قوة الجيش الذي يهاجمها، ففرطت عند ذلك كلمة من أحد القواد كانت هي القاضية! فقد قال إن العدو مهما فعل بالمدينة فلن يتأتى له أن ينال منها شيئاً اللهم إلا إذا عول على طرقها سبع سنوات متواليات لإفساد ما حولها من الزروع والغلات، فحينئذ يكون من أهون الأشياء عليه اقتحامها إذ يكون الجوع قد فعل بها أفاعيله.

تنبه المأمون بن ذي النون لهذه الفلتة وتفطن سادات العرب لما فرط من صاحبهم وأوجسوا خيفة أن يكون ضيفهم الإسباني متناوماً لا نائماً فيكون قد وعي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها للإسبانيين امتلاك هذه المدينة الحصينة المنيعة، فأخذوا يستخبرون النائم ولكنه أغرق في الغطيط وزاد في التناوم وبالغ في التماوت حتى اطمأن بالهم وظنوا أنه لم يدر ما دار بينهم من الحديث، ولقد بالغ الافرنج في رواية هذا التماوت إلى درجة لا تقبلها العقول فقد زعموا أن العرب تخيلوا أنه وقف على أسرارهم فأرادوا أن يقتلوه ولكن شهامتهم أبت عليهم أن يسفكوا الدم الحرام ولاسيما دم الضيف بغير الحق.