للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وأما من رزق قريحة وقادة وبصيرة نقادة وأحاطة بما لا مندوحة عنه من قواعد اللغة وأصول العربية، ثم راض نفسه على مزاولة أساليب العرب ومناحيهم وتوفر على مطالعة تراكيبهم ومراميهم، فقد اكتسب من ملكتهم ما أخرجه إلى لهجتهم، فبات وما يعترضه عيّ ولا ترتهنه لكنة ولا تتحيف بيانه عجمة.

وهل البلاغة لعمري إلا بصقال الديباجة ومتانة الأسلوب وحلاوة الأداء، لتكون المعاني أعلق بالخاطر وأسرع في السمع وأفعل في النفس، أرأيتك وقد ثقفت الألفاظ المتخيرة وعرفت أين تضع يدك في سبكها وتأليفها، كيف تهز القلوب وتخلب الألباب وتملك قياد الأهواء.

ولله در أبي هلال العسكري إذ قال في الصناعتين إن مدار البلاغة على تحسين اللفظ، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً وقال ابن الأثير أن اللفظة الواحدة تتنقل من هيئة إلى أخرى فتحسن أو تقبح، هذه كلمة (الأرض) فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة سواء أفردت بالذكر عن السماء كما في قوله تعالى (والله أنبتكم من الأرض نباتاً) أو قرنت بالسماء مفردة كما في قوله تعالى: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) أو مجموعة كما في قوله تعالى (الله الذي خلق السموات والأرض)، ولو كان استعمالها بلفظ الجمع مستحسناً لكان هذا الموضع أو شبهه أليق به، ولما أراد أن يأتي بها مجموعة قال: (لله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن)، وكذلك قول أفصح الخلق لبعض النساء (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، وحسبك أن المعاني المنقولة من لغة إلى أخرى تفقد ماءها وتفارق صفاءها، وما ذلك إلا لأنها انسلخت من برودها المعلمة وانخلعت من قوالبها المحكمة فكانت شبحاً ناحلاً وخيالاً ماثلاً.

وليت شعري ماذا يضر المعاني إذا أجيدت لها المباني، فكانت شرعاً في المتانة وسواء في الصياغة ولاسيما وقد جاشت غوارب العجمة وفشت لوثة اللحن، ومست الحاجة إلى شد أواصر اللغة وتقويم منآد اللسان.

إلا وأنه لمن البر بالأدب والغيرة الصادقة على العرب، أن ينسج المتأدب على منوال الفصحاء ويطبع على غرار البلغاء فذلك تاريخ آبائنا يصيح بنا من ورائنا وكله دموع تترى لا ألفاظ تتلى (وما يذكر إلا أولو الألباب) والله الموفق إلى الصواب.