بالقراءة ودارسين مولعين بالبحث والدرس، فإذا كان مستر ويلسون اليوم من كبار العلماء والباحثين، ورجلاً من أكبر المفكرين، وسيداً عظيماً في عالم الأدب وميدان الخطابة، فإنه إنما أوتي جميع أولئك رأساً من أجداده وعشيرته، والوسط الأول الذي نشأ فيه، ولئن كان تربى في كثير من المدارس، وتخرج من عدة من الجامعات، فإن الفضل في جميع مشاعره الأدبية، وعظمته الذهنية، يعود إلى أبيه، وعن أبيه أخذ كذلك الروح المجونية في الحياة، المحتجبة في تضاعيف التعبير الشديد وعبوسة اللغة التي يتكلم بها، وذلك التقطيب الذي يبدو في معارفه، وقد حدثني أولياؤه وخلطاؤه عنه فقالوا إن صورة الفوتوغرافية لا تشبه حقيقته عند الذين يعرفونه، فإن الجبين العالي والفم المنطبق الشفتين، الثابت التقطيب والفك القوي، والصدغ العريض، والملامح المتجهمة، إنما تقدم للناس صورة ويلسون آخر يخالف ويلسون الذي يعرفونه، ولعل ذلك راجع إلى الثقة بالنفس، لأن الثقة بالنفس تكسب الوجه شيئاً كثيراً من الرزانة والوقار لا حقيقة له في النفس التي تختفي وراء ذلك الوجه، فإن وردر ويلسون المعروف في الحياة الخصوصية وبين الأصدقاء والخلطاء يتجلى وفي عينيه بريق ساطع، وفي فمه حركة مستمرة، وشفتاه لا تفتران عن الابتسام وإن تراءى في صورة الفوتوغرافية مقطباً، وأكبر مزايا ذهنه أن الكاتب الذي أولع بقراءة كتبه ولبث طول حياته ثابتاً على مطالعة تواليفه هو الروائي شارلز دكنز ومنه استمد قوة الملاحظة، وأدرك معرفة جميع الذين حوله، وإن نظر إليهم عن كثب في وسط الزحام العظيم أو في غمار الحفلات وسهرة الملاهي والاجتماعات، أو وهو مشغول الذهن بإعداد الخطابات، وإنه ليعود قافلاً من احتفال أهلي عظيم حيث الأمور تنهك الرجل الكبير وتذهب راحة الوالي العظيم السلطان، غير متعب ولا متراخي القوي، لأنه اعتاد أن لا يجد لهواً إلا في ملاحظة الناس الذين حوله، ولا يبهجه إلا الاطلاع إلى الذين يحوطونه.
ومن هذا يستطيع المرء أن يصف ويلسون على الرغم من أنه من أصل إيرلندي بأنه أشد الأمريكيين أمريكية، لأن الذهن الأمريكي إنما ينظر إلى الأمور الرزينة رزيناً، وإذا باشر عملاً - كهذه الحرب مثلاً - فلا يدعه حتى يتهمه، ويهجم عليه بصبر لا رحمة لنفسه فيه ولا إشفاق، ولكن العادة أن الأمريكي لا ينظر إلى الأمور نظراً محزناً رزيناً جد الرزانة، لأن الأمريكي لا يزال يحب المجون والتهييص ولاسيما في الحديث، حتى ليخيل للإنسان