للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

من شفتيها على رغم من إرادتها لفظة اسمه بلا تكلف ولا احتشام ولا تسويد، وهي واقفة بباب دارها بعد طوفة المساء، ومادة يدها إليه بتوديعة الليل، فيبتسم ابتسامة صغيرة ممتزجة بالأسى، وينطلق مطرق الرأسي في صمت مفكراً في طريقه إلى داره.

ولكن ذات ليلة أخذ برأسه جنون عظيم، فبدلاً من أن يشد يدها في حرارة التوديع، كما هي عادته في ختام المطاف كل ليلة، همس إليها بلا لفظ مسموع، ولا صوت يصل إلى الأذن، بل بإشارة صامتة وشفة مقفلة، وفم مستطيل، يطلب قبلة. .!

فجرت شيلا إلى البيت وأقفلت وراءها الباب بعجلة مرعبة، ولم يثب إليها رشدها إلا وهي واقفة في بهو الدار مختنقة الأنفاس من غير ما تعب ولا لغو من عدو أو جري ولأنها تذكرت إذ ذاك أنها كانت مصعدة الأنفاس كذلك يوم ألفت نفسها في أحضان ليزلي وبين ذراعيه، عجبت وأخذتها الدهشة وراحت تسائل النفس حيرة أية قوة مجهولة جعلتها إذ ذاك تشعر بما شعرت به من قبل، لقد كانت الزفرات نفسها الزفرات تلك، ولكنها لم تكن واحدة. . فقد أحست اليوم أن السعادة على منال يدها ولكن هيهات أن تصل يدها إليها. .

وأبصرت فوق المتكأ خطاباً من ليزلي وقد كتب إليها على سبيل تخفيف آلامها وإرسال السكينة إلى فؤادها يقول أنه على خير حال لأن الرجل لا يكتب كثيراً عن الآلام التي يسعر بها في الفراق وعلى شط النوى إلا خلال الأشهر الثلاثة الأولى، وبد ذلك يصبح ظلاً فقط أو طيفاً في ذهن قارئ رسالاته، لأنه يأخذ إذ ذاك في تخفيف لهجة الحزن في صحائفه، وقد يكون حينذاك في أشد آلام النفس، وقد يكون رهن عذاب لا يطاق. ولكن تأبى عليه مشاعره إلا أن يرسل برد السكينة إلى حبيبه أو وليه أو أليف نفسه.، فيخطئ في أغلب الأحيان ويحدث هفوة قد يرى مغبتها في المستقبل.

فلما تناولت شيلا ذالك الكتاب بيدها وفي نفسها تلك العوامل التي أثارها ذلك الحادث لم تجده إلا بارداً ولم تر سطوره إلا قسوة وخشونة وإحساساً ميتاً، وقام ذلك أمامها دليلاً على أنه قد نسيها والتمس منها السلوى، واشتف كأس التلهي حتى الثمالة ليخفف ذكراها من فؤاده.

وكانت شيلا لم تدع منذ أيام السبيل لشؤونها وعبراتها، فذا بكت يوماً من أيام البين فقد كانت تمكث الساعات الطوال ودمعها يسح بلا انقطاع ولا حاجز يرده، فجعلت الآن تبكي