للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

منه عواطفهم.

ولنعد الآن إلى ما كنا فيه من أمر القيصر نيقولا الثاني فقد عاش ذلك القيصر طوال حياته مهدداً بالموت في كل ساعة على أيدي الفوضويين، ففي أيامه الأولى كان على حافة الموت الزؤام هو وأسرته إذ أراد القوم اغتيالهم بتحطيم القطار الذي كان يقلهم وهم عائدون من القرم، وكانت الشرطة لا تفتأ تكتشف المؤمرات تلو المؤامرات، وكانت القيصرة من جراء ذلك لا تستريح إذا ابتعد القيصر عنها طرفة عين.

وقد شكا إلي الكثيرون من أصدقائي من كبار موظفي الحكومة في الروسيا ووزرائها من تداخل القيصر في الشؤون الحكومية وقلبه كل نظام يحدثونه، وإفساده كل رأي يرونه، لأنه كان أبداً متقلب الرأي، يصدر الرأي ويمحوه، ويتلبث الفكرة ويعدو عليها فيدفعها، ولذلك لم يستطع وزراءه أن يبقوا على سياسة واحدة أو ينفذوا نظاماً مطرداً، ولم يكن القيصر ضعيف الصحة، بليداً مكسالاً، بل كان دؤوباً مجتهداً، فكان يقضي سحابة نهاره وجزءاً من ليله في قراءة الأوراق الرسمية والتأشير عليها والتوقيع بإمضائه وتدوين ملاحظاته في هوامشها، ولكنه كثيراً ما كان يكتب رأياً على الرسالة، ثم لا يلبث في الصحيفة نفسها أن يضع رأياً مناقضاً للرأي الأول معارضاً مهزئاً، وما ذلك إلا لأنه سمع رأيين مختلفين من جلسائه في تلك اللحظة، من أهل البلاد والحاشية قبل أن ينتهي من تلاوة الرسالة كلها، وزاد في خطر فقدان الشخصية لدى ذلك القيصر، حياة النسك التي كان يحياها، وإخلاده إلى بيته ورعاية أسرته، فهو وإن كان الحاكم المطلق على خمس الكرة الأرضية فقد وظل يعيش كرجل من أوساط الناس حول عشيرته، منكباً على دفتر الحساب، لا فكر ولا ابتكار ولا تأمل ولا نجوى، على أنه ليعز على الرجل العبقري ذي العارضة القوية أن يسوس بنفسه ويحسن السياسة في مملكة شاسعة مترامية الأطراف كتلك الدولة العظيمة المساحة، ولم يكن القيصر يرى غير موظفين وعمال حكومة، وكل منهم يمسك بيده معولاً يريد به أن يهدم ركناً من أركان مملكة القيصر، ولذلك لم تكن بين القيصر والعشب صلة ولا اختلاط وهذه البيئة الوبيلة الفاسدة التي عاش فيها القيصر جعلته أقل الناس اكتراثاً بحقائق الحياة وأبعدهم عن الاحتفال بالأحداث التي تجري في جماهير أمته، فلما حدث ذلك الحادث الذي قتل فيه ألوف من الشعب في يوم التتويج بموسكو، لم يكد يعرف القيصر الأمر الذي حدث،