أن ينال منها حاسد أو جاهل ويطير لبه شعاعاً وتأخذه نوبة الحياء كلما خشي شيئاً من ذلك. فهذا هو سر نفاره من الناس اللهم إلا من أولئك الذين لا يتناولون أفكاره وأقواله وعواطفه وأعماله بالنقد والتجريح والنعي عليها بالتصريح أو بالتلويح من خاصته وأهل مودته ممن تقدمت الإشارة إليهم.
حكى جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف المعروف - وكان من أهل الحياء الشديد - فيما حكاه عن نفسه في كتابه (اعترافات) انه مر ذات يوم بحانوت فطائر وحلوى فاشتهى شيئاً منها وحدثته نفسه بالدخول في ذلك الحانوت لابتياع ما يريد ثم أحجم عن ذلك حياء إذ خيل إليه أن الفتيات البائعات تنظرن إليه بلحظات ملؤها السخرية وخشي أن يرمقنه وهو يقضم من تلك الفطائر بالنهم والتهالك في حب الحلوى، وهي خلة معروفة لدى الصبية والأطفال فأبت نفسه أن يلتاث بهذه اللوثة الشنعاء في نظره ورجع أدراجه ونفسه تكاد تذهب حسرات.
الحيي دقيق الشعور حتى كأن نفسه نفسان نفس تعمل ونفس تراقبه وتحاسبه على ما يأتي وما يذر، وهذا الشعور الملازم هو الذي ينبه لديه الأوهام والخيالات التي أشرنا إليها فتنبعث تبعاً لها العواطف المرتبطة بها من مراقدها بسرعة البرق فتؤثر على أعصابه فيبدو الخطل والاضطراب جلياً في حركاته وسكناته. وما زالت دقة الشعور قضية أهل الأدب والفضل وأرباب الوقار والحشمة فإنهم يحملون بين جوانحهم رقيباً عتيداً يميز بينهم وبين السوقة من ذوي الوجه الوقاح الذين لا يبالون لما يفعلون.
وكثيراً مت يخرج الحيي من حيائه ويخلع من عنقه ربقته ويقصي أحكامه الجائرة فتراه يأنس أحياناً بمن لا عهد له بمعرفتهم ولا مكانه لهم في نفسه فيفضي إليهم ببنات صدره ويبثهم آراءه وأفكاره وأمانيه ويندفع في الحديث فتنفجر المعاني في ذهنه وتجري على لسانه الكلم العذاب المتضمنة لطائف الحكم وروائع الإشارات وبدائع النكت. فإذا رأيته ساعتئذ حسبت أن ليس للحياء عليه من سلطان.
ذلك أن الحياء ليس حالة نفسية مستمرة فكلما غفل الشعور عن صاحبه صار إلى الحالة التي وصفناها فإذا استيقظ لأدنى سبب بدأت نوبة الحياء تدب في نفسه، وتمشي الاستحياء فيها تمشي الحميا في جسم الشارب.