الأشياء الصامتة فإذا ما أخذت مثلاً أشعار هوميروس وما تكنه من الخيال رأيت من خلالها ما كانت تحويه نفس الشاعر ونفوس أهل زمنه من البحث عن الجميل في الأشياء القدسية وما يلقبونه الإله. ثم إذا تقدمت مع الزمان وأخذت أسفار العرب في صدر الإسلام بل أخذت القرآن نفسه مثلاً ظهر لك أن الناس صاروا يفهمون الجمال في غير الأشياء القدسية وغير النساء: صاروا يفهمونه خارج هذه الدائرة الضيقة المحدودة التي تكاد لا تقع تحت الحواس ويختص بها الخيال فيما هو أكثر تحققاً في الواقع ووقوعاً تحت حكم النظر والسمع فإذا ماقلبت صفحات ديوان من دواوين الشعراء الأقدمين أو أي كتاب من كتبهم رأيتهم يذكرون المحيطات بهم بنوع من الأعظام ويعدون فيها من المعنى ما يدل على تقديرهم لها التقدير العالي. ولا أذهب بعيداً لآتيكم بمثل فهذه صحيفة بين صحائف القرآن الكريم الكثيرة ملأى بهذا المعنى جاءت تحت يدي لأول ما فتحت المصحف. قال تعالى في سورة النحل:{والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس أن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}.
وإنه ليخيل لي أن إحساس الناس بالجمال سار كغيره من كل الأشياء أو على الأقل من أكثرها على سنة النشء والارتقاء. فكان أول ما أخذ بنظرهم جمال المرأة من جانب الرجال وجمال الرجل من جانب النساء. ولم يكونوا في ذلك إلا كبقية الحيوان مدفوعين بقوة الطبيعة وعامل الانتخاب الجنسي لأدخال شيء من العزاء لنفوسهم عن شدائد الحياة ولاستبقاء النوع أيضاً وتحسينه. والذي يحملني على هذا الاعتقاد ليس هو فقط ماجاء في التاريخ فإن أقدم ما نعرف منه لا يكفي لذلك تمام الكفاية وإن أظهره لحد كبير. ولكن الأمم الحاضرة التي لا تزال في حالة البربرية وتحكي بتكونها تكون الأمم البائدة والأمم القديمة جداً تعطينا فكرة تكمل ما نأخذه عن التاريخ. وهاته الأمم ينحصر الجمال أمام أنظارها في المرأة وفي أشياء أخرى قليلة جداً مما يستعمل للزينة.