الحديث) صالحة ملائمة. ولذلك كان حسن التعبير عما يجيش بالنفس من أشق المشاق في كثير من الأحايين ولا سيما عندما تحولب دونه عقبات وموانع من كدورات الذهن وارتباكاته أو من علل البدن وآفاته. فلقد حدثني مرة عالم مشهور وأديب مذكور فقال أنه لما أراد أن يلقي أول محاضراه ضاق عليه مجال القول وانحبس به عنان الكلام فأتم محاضرته في ربع ما كان قد حدد لها من الزمن وأحس كأنما قد أنفذ ذخيرة معلوماته ونفض إلى السامعين جملة معارفه ومحفوظاته. وخرج مرة إبراهيم (نبي الله) إلى قومه لينشدهم إحدى أناشيده المعروفة المألوفة فارتج عليه فلم يفه ببنت شفة إذ خانته الذاكرة وطفق يكد القريحة لتجود له بفاتحة الأنشودة وعبثاً حاول فلم يجد مخرجاً من هذه الأزمة إلا شرح الحالة إلى الجموع المحتشدة لسماع أنشودته فأسعفوه فوراً فصاح منهم ألف صوت في نفس واحد بما قد نسيه من فاتحة تلك الأنشودة. وقد كان الشاعر المقدس (جون ملتون) لا يجيد قرض الشعر ولا توحي إليه ملائكته (لا أقول شياطينه) إلا في موسم محدد من العام - من منتصف الخريف إلى منتصف الربيع. وأعرف رجلاً من مشاهير الخياطين من سلالة الشاعر المذكور لعله قد ورث شيئاً من دقة إحساسه ورقة شعوره وفرط تأثره بألطف المؤثرات وأخفى الأسباب والعوامل فمما حدثت عن ذلك الرجل أنه ترك مرة أحد الزبائن يفلت من قبضته دون أن يشتري حلة من بضاعته وكان إلى جنبه إذ ذاك صاحب لي فقال له ذلك الخياط النابغة وضرب بيده على جبينه (تباً لهذا الصداع. أما والله لولاه لألبست هذا الرجل حلة برغم أنفه) عجيب وايم الله! نبضة خفيفة في رأس ذلك الخياط ولكنها عطلت تلك الآلة الدقيقة (الذهن) التي من شأنها استدراج الآدمي الطارئ (س) إلى الدخول في قطعة معلومة من القماش (ص).
مثل الرجل المفكر في أول ظهوره وتسليط أفكاره الحادة على ما يحيط به من العادات والعقائد والتقاليد المرلفة من مزيج من الحق والباطل كمثل الكيماوي الذي يصب أحماضه الحادة على المواد القلوية فيحدث تفاعلاً بين الحامض والقلوي ينتهي باتحاد العناصر المتآلفة من الفريقين وصيرورتها ملحاً متعادلاً لا هو بالحامض ولا هو بالقلوي. فهذا الملح المتعادل هو الرأي النهائي للرجل المفكر عن أي نظرية أو مشكلة من المسائل ومتى وصل إلى هذا الرأي الأخير الناضج ألقى كانونه وبودقته. ومخباره وأنبوبته. ووضع ملحه