اسمح لي أن أقدمك إليها. إنها تشغل مكان زوجتي المرحومة فهي تسوس البيت وتدبره وتعنى بشؤون أخواتها وأخوتها) فانحنيت مرة أخرى للفتاة (وقد ألقت بنفسها على كرسي دون أن تفوه بكلمة) وقلت في نفسي ما أبعد ما بين منظر هذه الفتاة وبين تدبير المنازل والعناية بشؤون الأخوة والأخوات. تالله ما لأمثال هذه الأمور خلقت هذه الفتاة. فقد كان وجهها مستديراً عليه سيما الطفولة، أعضاؤه صغيرة مستملحة لكنها جامدة الحركة - بعينين زرقاوين تنبعث منهما نظرة حادة دهشة مبهوتة كأنما قد بصرتا شيئاً غير منتظر. وكان فمها الصغير الممتلئ المتقلص الشفة العليا لا يبتسم بل يلوح عليه كأنه لا يعرف الابتسام مطلقاً. وكان صدرها يتنفس تنفساً ناعماً ليناً وذراعاها تستندان إلى خصرها النحيل بضغط شديد وبغير رشاقة وثوبها الأزرق مرسل على قدميها الدقيقتين وهو غفل من زخارف التكسير والتغضين كثياب الأطفال. فكان منظرها على العموم يقع من نفسي موقع الألغاز والمعميات. فرأيت فيها شيئاً أكثر من مجرد فتاة ريفية شديدة الحياء والهيبة - أجل رأيتها صنفاً وحيداً في ذاته، فريداً في صفاته، مغايراً لكل ما رأيت قبلها من صنوف الفتيات. ولكن ما هو هذا الصنف؟ ذلك ما لست أدري ول أستطيع أن أدري ولكن كل ما شعرت به هو أني لم أر في حياتي شخصية أشد وفاء وإخلاص من تلك الشخصية. ولئن سألتني أي عاطفة من عواطفي أثارها منظر الفتاة لقلت لك الرحمة. أحل - الرحمة والحنان هو الذي جاش في أعماق نفسي لرؤية هذه الروح الحية اليقظة المتحفزة الجادة المخلصة! الله وحده يعلم لماذا؟ إن الخواطر والأفكار التي جاشت بصدري لرؤية هذه الفتاة لم تكن من أفكار هذا العالم الأرضي الكثيف - ولكنها في العالم الروحاني وإن كان وجه الغادة خالياً من كل ما يصح أن يسمى معنى روحانياً وقد كان دخولها الغرفة لغير شيء سوى أداء تلك الشؤون المنزلية التي ذكرها أبوها.
شرع الوالد يتكلم عن طريقة العيشة في مدينة ت وملا امتازت به من ضروب الملاهي الاجتماعية والمنافع العظيمة فقال: نحن هنا في أتم سكينة وهدوء فمحافظ المدينة رجل مطراق كئيب ومارشال الإقليم رجل أعزب ولكن ستقام حفلة رقص عظيمة في قاعة الأشراف بعد غد. فيا ليتك تمضي إليها فإني كفيل لك أن تجد بها ما تشتهي من الفتيات الملاح والفتيان الأذكياء.