ومن البديهي أن أول ما يلفت نظر الإنسان - منذ تكونت فيه القوى العقلية - هو أن هنالك نورين يتناوبان الإضاءة على هذا العالم: أحدهما، وهو الأقوى يظهر نهاراً وثانيهما وهو أقل من سابقه يظهر ليلاً، وأن هناك ضوءاً ثالثاً هو اضعف بكثير من الاثنين يسطع في السماء ليلاً كأنه المصابيح المتألقة - وهو ضوء الكواكب. بيد أن هذه المشاهدة مع بساطتها المتناهية، أدهشت عقول أهل تلكم الأجيال الغابرة، وحيرت أفهامهم، وجعلتهم يذهبون في تعليل نظامها مذاهب شتى، ويلصقون بها الأقاصيص الجمة والخرافات العديدة ومنهم من عظم في نظره ش أنها إلى حد أن اتخذها إلهاً يسبح بحمدها ويقدس لها كما قال تعالى في الذكر الحكيم عن إبراهيم عليه السلام:
{فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون}
فلما انعموا النظر في هذه الأضواء وطفقوا يراقبونها، تبين لهم أنها لا تنير فقط، بل تتحرك في وقت معاً - فالشمس مثلاً - وهي مصدر الضوء الأقوى - تشرق كل يوم من المشرق، ثم تصعد في السماء إلى أن تبلغ كبدها في منتصف النهار، وبعدها تأخذ في الانحدار حتى تغيب في المغرب. على أنهم لاحظوا فوق ذلك أن نقط الأفق التي تظهر منها الشمس، والأخرى التي تغيب فيها وارتفاع الشمس وقت الظهيرة، وحدة إضاءتها - كل هذه ليست ثابتة وإنما يتخللها اختلاف تدريجي يصحبه تغيير محسوس في الجو والزراعة وما إلى ذلك.
ففي الوقت الذي تكون فيه الشمس أعلى ما يكون وقت الزول، تكون حرارتها شديدة ويكون النهار أطول أمداً من الليل. فإذا جاء الوقت الذي يقل فيه ذلك الارتفاع إلى النهاية، ضعفت حرارتها وارتد النهار قصيراً. وبذلك عرفت الفصول المختلفة وسمي المدى الذي يكمل فيه هذا التغيير (عاماً).
وراقبوا القمر - وهو مصدر ضوء الليل - فإذا به يتقلب في أشكال عديدة لا يخطئها البصر، تتعاقب بترتيب منتظم في مدة ثابتة معينة. فيكون هلالاً صغيراً ضئيلاً يظهر بعد غروب الشمس مباشرة ولا يلبث أن يختفي، ثم ينمو في الليالي التالية فلا يكاد يمضي