للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

مجلسه فهم بالقيام قائلاً:

اسمحوا لي أن أنصرف.

هنا ارتفع صوت حلو رخيم فيه رنة حنان ورقة قائلاً: كلا إنه لا يقصد إلى ما ذهب إليه ظنك. وإنما قال ما قال غير متعمد كلا والله لن تذهب. ورفعت ي بضة عضة بيضاء فاستقرت على عضد الرجل المسكين.

هذه هي الفتاة إيريس العذراء اليتيمة الحسناء - إحدى جلاس المائدة.

هنا ارتفع صوت أناثي آخر بلهجة كأنها محلول حمضي شديد من الجد والوقار والحشمة خال من أدنى أثر من اللطف والرقة فقال: إيريس عزيزتي رويدك انظري ما تصنعين!

ولكن الفتاة لم تبال بتحذيرات الأرملة ذات الوقار وبقيت واضعة يدها على عضد القزم المشوه - فكانت صورة بديعة يعدها المصور غنيمة وفرصة - دامت بضع ثوان ولا عجب. فأي شيء أغرب وأندر من منظر المليحة الحسناء في ريعان الشباب ورونق الصبا والقزم المشوه الدميم عليه وصمات الطبيعة القاسية وآفاتها ولعناتها ينظر أحدهما في عيني الآخر وقد امتزجت نظراتهما واختلطت لحاظهما.

لأكبر ظني أن القزم لم يظفر قط في حياته بمثل هذه النعمة ولم يفز بمثل هذه النظرة من حسناء قبل إيريس ولا شك أن الفتاة لم تنظر قط في عينين كهاتين تغلغلت ألحاظهما إلى أعماق روحها - لا أقول أن عيني القزم كان لهما بريق وإشراق خارق للعادة - ولكن كان فيهما تلك النار الحزينة التي تلتهب في أرواح من ينظرون إلى جمال المرأة بلا أمل - ولكن يأسها لمزيد الأسف مصحوب أبداً بالوجد والهيام والكمد. فخيل إلى القزم أن هاتين العينين كانت كمياه الجدول الشفاف وأنه قد أبصر في أعماقهما المبهمة روضة أنفاً مغلقة الأغلفة والبراعم تنتظر طلوع فجر عاطفة شديدة فتتفتح أزهارها وتينع ثمارها وتدوي خمائلها برنين نغمات الهزار والبلبل.

هذه الاستعارة من بنات أفكاري أنا - أستاذ المائدة - لا من بنات أفكار القزم، فإن القزم لم يتخيل مثل هذه الاستعارة في تلك اللحظة وليس في مقدوره ذلك ولا في مقدور أي إنسان آخر في مثل ذلك الموقف الحرج. وإنما كل ما جاش بصدر القزم إذ ذاك هو لوعة حزن وحرقة بث وأسى لا يعبر عنها لسان ولا يصفها بيان - ثم أنين باطن صامت.