للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وكان الناس في كل مكان ينظرون إليّ نظرتهم إلى رجل مفعم النفس بتهاويل الخيال وتصاوير البطولة وقد كنت خجلاً من الدور الذي أحاول تمثيله ولما كان كل يوم يزداد نفوري من القوم ومن مشاغل حياتهم رأيت الإقامة في ضاحية من الضواحي حيث أمضي تحت غياطل النسيان وخمول الذكر وقد أصبت في الأيام الاولى من تلك الحياة سروراً وراحة ولما كنت مجهول المحل مغمور الذكر صرت أدخل أحياناً في غمار الناس وأندس في جموعهم تلك الصحراوات الواسعة الجرداء وكنت كثير الجلوس في كنيسة قل ورادها وكنت هناك أذهب الساعات في التأمل والتفكير وكنت أرى النساء الفقيرات يعفرن وجوههن في طلب المغفرة وحسن المآب وكنت أرى المذنبين راكعين للندم ولقد كان ينصرفون عن ذلك المكان بوجوه باشة رائقة وإن ذلك الصياح الأصم الذي كنت أسمعه من الخارج كان يشبه صوت أمواج العواطف المغتلمة وزوابع الدنيا الثائرات التي كانت تفني عند أقدام تمثال السيد ولقد كان الله هو الشهيد على سيل تلك الدموع التي أسلمتها المحاجر هناك وكم ألقيت نفسي عند قدميه في ضرع وخشوع متوسلاً إليه أن يرفع عني أعباء الحياة أو يغير مني الإنسان القديم ومن الذي لم يشعر بحاجته إلى تجديد نفسه وإن يعيد ريعان الشباب من أمواله الغدير ويقوي روحه من ينبوع الحياة؟ ومن لم يجد نفسه موقراً بأثقال من نفسه تعجزه عن الاضطلاع بعظيمات الأمور والنهوض بجلائل الأعمال من نبل وشرف وعدل وقسطة؟

ولما كان المساء يقبل ساحباً أذياله في الأفق كنت وأنا عائد في طريقي إلى مكان عزلتي أقف على قنطرة في الطريق لا شاهد غروب الشمس وقد كانت الشمس تتراءى للناظر وهي تضيء من بين الأبخرة الكثيفة المتصاعدة من المدينة كأنها تنساب في سيال من الذهب وكأنها تتحرك مثل (البندول) في ساعة الزمن وكنت أصل منزلي وقد أفرغ الظلام أبراده على أعطاف الارض وكنت أسير في طرق كثيرة التعاريج والمنحنيات منعزلة ولما كنت أرى الأنوار اللامعة من منازل الناس كان ينتقل بي الفكر إلى داخل تلك المنازل وما انطوت عليه من مناظر الشقاء أو مرائي السعادة وكانت تمر بي خاطرة ممضة مؤلمة وهي أن تحت سقوف تلك المنازل ليس لي صديق يخفق قلبه بحبي ويهتز للقائي وكنت وأنا أسامر هذه الأفكار اسمع دقات جرس الكنيسة وكان يرن صداها وينتشر في جميع النواحي