للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقد ابتلى محمد - كالمسيح - منذ أول مرة بمناوأة قومه إياه ومكافحتهم له. وكان أتباعه بادىء ذي بدء كأتباع عيسى صغر شأن وقلة عدد. وكان محمد قد أشبه المسيح أيضاً من حيث أنه قد جاء قبله رجال قد طرحوا عنهم قيود الوثنية وأصغوا إلى نجوى الحقيقة المطلقة في أعماق صدورهم. وأشبه المسيح أيضاً من حيث أنه كان يحث على الحلم والوداعة والبر والمعروف والتألف والتآخي.

ولكن محمد ظهر بين أمة منغمسة في العادات الوحشية والتقاليد الهمجية كانت ترى أن الحرب هو المقصد الوحيد في الحياة - أمة كانت بمعزل عن العوامل المادية الخسيسة الشائعة إذ ذاك بين أمتي اليونان والرومان ولكنها كانت كذلك بمعزل عن عوامل المدنية التي كانت فاشية بين تينك الأمتين. ففي أول الأمر أثارت تصريحات النبي احتقار الأعراب ثم هيجت بعد ذلك سورة غضبهم وانتقامهم. على أن أتباعه جعلوا مع ذلك يزدادون في العدد والعدد حتى جاءته دعوت الأنصار إلى المدينة فتوجت بالنجاح أعماله. ومنذ قبل هذه الدعوة بهذا الملاذ الكريم - منذ دعته الأنصار إلى أن يكون مشرعهم الأكبر وقاضيهم الأعظم وأستاذهم الروحاني أصبح حظه بحظهم مقروناً. ومستقبله بمستقبلهم مرهوناً. منذ تلك الساعة أصبح المسلمون مضطرين إلى إقامة الأرصاد على الوثنيين وأشياعهم وغدامة اليقظة والرقابة على حركاتهم وتدابيرهم وعلى أغراضهم ونواياهم. وكذلك نرى أن بلدة واحدة اضطرت إلى القيام في وجه الأعراب بأسرهم ونهضت لصد هجمات القبائل العديدة التي كانت تسكن جزيرة العرب - فهذه الظروف ألجأت حضنة الإسلام في الأحايين الكثيرة إلى اتخاذ أشد التدابير للمحافظة على كيانهم. ولا غرو فإنه إذا خابت وسائل الحث والإغراء لم يبق سوى طرق الإكراه والضغط.

وهكذا يتضح لنا أن غريزة المحافظة على النفس التي أوحت إلى نبي النصرانية عيسى أن يشير إلى أتباعه باتخاذ آلات الدفاع عن أنفسهم هي التي ألهمت المسلمين في زمن محنتهم إلى شهر السلاح عندما ألح عليهم أعداؤهم ذووا البطش والصولة.

وكذلك استطاع محمد بطرق اللين تارة وبالهمة الصارمة أخرى أن يؤلف أشتات الأمة العربية ويضم نافر تلك العناصر المتناكرة تحت لواء الدين السديد. وفي ظل كلمة التوحيد وإذ ذاك ساد السلام في أنحاء البلاد. ورفرفت أجنحة الأمن والطمأنينة على رؤوس العباد.