وسرت بالفتاة الآنفة الذكر إلى غرفتي وسألتها أن تقعد ثمت وظهرها إلي وأن تنضر ثيابها عن شطرها الأعلى ثم نضددت متاع الغرفة من حولها وصففته كما كنت أصنع في حضرة حبيبتي ووضعت الوسائد والمضاجع بحيث كانت في ذات ليلة بعينها من ليالي وصالها قد تذكرتها إذ ذاك. والواقع أن المرء لا يزال يتذكر من بين خواطر مسراته الغابرة في حادثة بعينها قد غلبت على غيرها من الخواطر وضحت في عالم الذكرى على سائر ما يلوح به من المعالم - كمثل برهة أو ساعة قد تفوقت على كل ما عداها وسادت فكانت نموذجاً ومثالاً
فهذه لعمرك لحظة يزفها إليك وسط القدر وسط ملايين اللحظات العديدة لا كمثلها لحظة فتهفت بك ملائكة السعادة.
ابشر يا فتى وطوبى لك! لقد ألقت يد الحظ في جعبتك سهماً من النار وركبت في عجلتك ضلعاً من النضار.
وبعد استيفاء الترتيب والتنضيد أشعاث بالمدفئة نارا طار لهبها واحتدم شواظها ثم قعدت فأطرقت وأرسلت عنان فكري في واد سحيق من الخواطر الحزينة والهواجس السوداء أو أغرقت احساسي في أعمق لجة من اليأس والقنوط وأقبلت على قلبي فأهويت إلي أوهد أعماقه وجعلت أتلمس ما هنالك فإذا بي لا أجد ثمت إلا الكمد القارح والألم المبرح والجرق الكاوية والحسرات المضاضة وإذا بصميم قلبي يتفتت ويتفرى. ثم أخذت أتغنى بأخفت صوت لحناً كانت حبيبتي لا تزال أيام وصالنا.
أتغنى بهذا اللحن وأنصت إلى صدى شجاه في صحارى قلبي المقفر، ثم قلت لنفسي الحمد لله على ما قد صرت إليه اليوم. وربك أقضى سعادة الإنسان في هذه الدنيا! هذه الغرفة جنتي وهذه الفتاة ابنة الشوارع وطريدة الانسانية حوريتي! ولا جرم! أو ليست في منزلة حبيبتي ودرجتها قد صيغت على مثالها وطبعت على غرارها. وبما أصلحك الله تفضلها معشوقتي وبأي شيء تفوقها. هذا هو الذي يفضي إليه العاشق في النهاية من المرأة الذي يهوى. هذا هو الشمع الذي تنتهي إليه بعد أن تجرد قرص الخلية من العسل. هذه عكارة الكاس بعد أن ترشف رحيقها! هذه هي أقذاء القدح الذي تديره علك الآلهة بعد أن تشرب مابه من المن والسلوى! هذه جيفة الحب القذرة.