للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بعاطفته إلى فرنسا واتخذها وطناً ثانياً له لم يزل يخص وطنه الأول وأرض آبائه على البأساء والنعماء وحياة طويلة قطعها مبتثاً محزوناً بحب ظل في فؤاده فتياً قوياً لا يخفت ولا يموت.

ولقد كتب في وصيته الأخيرة إن كل ما كان يرمي إليه في مختتم حياته لم يكن إلا سعياً متواصلاً في تحبيب الشعبين الألماني والفرنسي والمشي بينهما بالمودة والوئام وقد أقام في باريس زهاء خمس وعشرين سنة ووظفت عليه في السنوات الأخيرة من حياته وظيفة من الحكومة الافرنسية ومنح منها عطاء يتقاضاه عاماً فعاما فجر عليه قبوله ذلك العطاء نقداً حاداً أليماً من أعدائه وخصومه وكارهيه إذ رأوا الفرصة سائحة للتشهير به والأزراء عليه بالخروج عن حب ألمانيا بلده والتجنس بالجنسية الفرنسية ولو كان هيني شاعراً من أولئك الشعراء الذين رصدهم الشيطان رسلا لاقتناص الأموال والذين تسمع من خلال بيوتهم وقصيدهم وسوسة النقود التي يطلبونها من وراء شعرهم ولو كان هايني باع وطنه الذي أساء بثمن بخس ساومته فيه فرنسا، إذن لسكت على الإهانة ولم يستطع صراخاً في وجه تلك التهمة الأليمة بل لقد ثارت ثورته وجن جنونه إذ قرأ قول لأعدائه فكتب في الحال إلى صحيفة من صحف ألمانيا يقول:

كلا، كلا. إن تلك الدريهمات التي تلقيتها من جيزو الوزير لم تكن ثمناً لوطنية بعتها وجنسية خلعتها ولم تكن ضريبة ولا صنيعة ولا رشوة بل إن ذلك المعاش لم يكن إلا على سبيل المعونة. لقد كانت - واسمحوا لي يا قوم أن أسميها باسمهاوان لا أخجل من ذكر حقيقتها - لقد كانت نفحة من تلك الصدقة العظيمة التي تتصدق بها فرنسا على الواغلين فيها. على المشرذين والمنفيين. على الطريدين من أرضهم. على الطريدين من أهلم المنبوذين منهم أولئك الين استهدفوا لعداء حكوماتهم بما نقدوها به وعابوها عليه وجاؤا إلى كنفها فاستظلوا بظلها واحتموا بها.

إنني ما سألتهم تلك المعونة المالية إلا بعد ظهور تلك الأحكام القاسية في ألمانيا التي تريد أن تهدم امري وتسلمني إلى المتربة والعيش الضنك بمصادرة تواليفي الحاضرة بل مصادرة كل ما يخرج في المستقبل من قلمي وكل بنت حسناء بلدها فكري. بعد ظهور تلك الأوامر العنيفة التي أريد بها أن أجرد من كل شيء يلاحق ولا محاكمة ولا سماع دفاع.