للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإنني لا أنكر أنني كلما مررت بشوارع لندن يخيل إليّ أن هذه الجماهير التي تتكون منها الأمة الانجليزية لم تتعلم شيئاً من هذا الدرس الأليم الذي لقنته الحرب أهل الدنيا، وأن هذه الجموع العظيمة لا تحفل البتة بهذه العلة الفاشية في أوروبا وتريد أن تمس أرضنا وتنزل بسوحنا، فلا شاغل لهم إلا همامات أنفسهم ومطالب عيشهم وأطماعهم وشهواتهم وملاذهم أنهم صاروا من الانحطاط الذهني والخلقي بحيث لا أثر في نفوسهم البتة من هذه المعرة التي تلصق بنا من المأساة القائمة اليوم في إيرلندة، ولا من احتضار أمة كبيرة كالنمسا ولا من الحالة السوأى التي وصلت إليها جنودنا الذين سرحناهم بعد الحرب، ولا من هذا الفالج الذي أصاب متاجر العالم وأسواقها الاقتصادية، ولا من هذه المبادئ السامية التي بدأت تبذر بذورها في العالم كعصبة الأمم، ولا شيء من هذا أصلاً.

إن الإنسان ليشهد اليوم أن أشد ما يجتذب نفوس هذه الأمة رواية تافهة أو حادثة مقتل، أو طلاق، وهي أكثر اهتماماً بأمثال هذه السفاسف من قصة أمم بأكملها تنتابها المجاعات أو نبأ نذير يهدد حريتها ويذهب بشرفها ولا تقل أنانية الأغنياء وأصحاب الأموال عن غباوة الطبقات العامة والفقيرة وضيق عقولهم، وإني لأشهد جموعاً عظيمة تموج كلجج البحر دافعة إلي مشاهدة لعَب الكرة، فيأخذني العجب ولا أدري هل ذهب عن هؤلاء الجموع صوابهم وتولت عنهم حكمتهم، وأرى أن هؤلاء الحمقى هم نتاج مدينة لا تستحق الإنقاذ، وإني لأجد الشباب - وهم آمال العالم - مسرعين جماعات حاشدة إلى قاعات الرقص، ودور السينما، للفرجة على روايات كاذبة لا تصور الحياة على حقيقة واحدة من حقائقها، روايات خالية من الخيال الرائع، غير محتوية شيء من السمو وبراعة التصوير، فيخيل إلي كما يخيل للكثيرين في ساعات اليأس أن روح انجلترة قد ماتت وأننا قد فسدنا وضعفنا وحمقنا وصرنا إلى البلاهة والطيش، وأننا لا نجد منا زعماء يتصدون للقيادة، لأننا لا نرى جماهير تتبع الزعيم أو تمشي في أثر الصائح. ليس لدينا مثل أعلى لأن الصدق زال من قلوب أفراد هذه الأمة.

إن انجلترة قد انحطت وتدهورت وانتهت إلى الحقارة والعبث ونحن بعد أن أنهكنا أنفسنا في هذه الحرب التي سقط في ميدانها أعز رجالنا وأفضل شبابنا منحدرون الآن في طريق السقوط حيث يزول من أيدينا ما كان من قبل لنا وطوع بناننا.