مثل هذه الخواطر لم تكن لتعرض له أثناء اشتغاله بعمله إذ يكون في غيبوبة عن العالم بأسره حتى يذهل عن طعامه وشرابه ولكن إذا كربه العسر وبرج به البؤس فاعوزه من الدريهمات حتى ما يشتري الصبغ والأوان وألح عليه صاحب البيت يطالبه بالأجرة عشرين مرة في اليوم - حينئذ كانت ذكرى محظوظي الرسامين تعاود قلبه الملوع المكلوم. وتنتاب خياله المجوع المنهوم وحينئذ كانت تعرض له عوارض اليأس وتخطر على باله خواطر النكوص والنكول فيحدث نفسه بالقعود عب اقتحام ذلك المسلك الوعر المؤدي إلى أوج العلاء الفني وذروة الكمال الصناعي ثم بالإسفاف والتسفل إلى مداق المسالك ومخابث الطرئق مجاراة للفريق الأعظم من مزاولي مهنة التصوير - أولئك الأدعياء الأغبياء الذين لا هم لهم إلا كسب المال بتبضيع الفن إلى الصناعة. في تلك اللحظة كان الفتى شارتكوف في مثل هذه الحالة النفسانية المخيفة.
قال في نفسه (يقولون صبراً صبراً. ما أسهل هذه الكلمة على لسان قائلها! ولكن أليس للصبر نهاية. ماذا يفعل البائس المسكين إذا عيل صبره ووهي جلده. صبراً صبراً سامحهم الله، أينبلني الصبر مهما طال اجرة الدار وثمن اللحم والخضار ودين الزيات والعطار. ثم لا أرى حولي من يهبني أو يقرضني، وإذا حاولت ان ابيع هذه الصور نتيجة كدي وثمرة قريحتي فمن ذا الذي يحفل بها أو يفهم أسرارها وهي منافية لذوق الجيل السقيم السخيف وما أراني أعطي في جميعها أكثر من عشرين قرشاً على أني ما أحسب ان في القوم من يفكر قط في اشترائها ومن ذا الذي يشتري مصنوعات شخص خامل الذكر مغمور مجهول ومن ذا الذي يحفل بالقطع المدرسية العتيقة والرسوم الأثرية والموضوعات الفنية الجافة غير المألوفة. من ذا الذي يهمه أن يشتري صورة تمثل غرفتي القذرة الحقيرة البائسة أو صورة خادمي الملعون نيكيتا أو صورة (امرأة عارية) وإن كانت في الحقيقة أجود صنعاً من كل ما يخرجه أدعياء الصناعة الغشاشون من ذوي الشهرة والفعة في هذا العصر الكاذب الجاهل، لماذا أسوم نفسي كل هذا الكد والنصب وأجشمها المصاعب والمشاق احتفاظاً بقواعد الفن وتأييداً لأركانه فأذوق في سبيل ذلك الجوع والعطش وأعاني البلاء والكرب على حين يمكنني أن أنال المال والصيط والرغد والرفاهية من أرقب طريق وبأيسر مجهود كسائر أرباب الحرفة من ذوي التساهل والاستخفاف)