للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وتستخدمها في إنفاذ أمرها وتقريب غرضها أما إذا لم تجد الفكاهة في النفس ما يرنق صفوها ويمر مذاقها كانت كالنهر حين تدفقه بين الصخور صافي الماء عذبه هذا جوزيف أديسون لطيف الفكاهة شريفها مهما غلا في نقد العادات والأخلاق ومن أجل ذلك كان خليقاً أن يحمل النفس على الخروج عما يشوبها من غير أن يضيع ثقتها بضميرها ومن غير أن يثير عداء الناس ويحرك بغضهم باللفظ الجارح فقد كانت الفكاهة في لسان سويفت اوكارليل كالسيف في يد الجَلود أو السوط في يد الجلاد.

وأحسن الفكاهة ما صدر عن رغبة في إصلاح فاسد وتقويم معوج من العادات والأخلاق والعرب تستعمل الفكاهة في الهجاء والسخر والتعجيز والوصف انظر إلى قول المتنبي في رجلين قتلا جرذاً وأبرزاه ليعجب الناس من كبره:

وأيهما كان من خلفه ... فإن به عضة في الذنب

انظر إلى الصورة الخيالية المضحكة التي في هذا البيت صورة شجار بين رجلين وبين جرذ وانظر كيف ادعى الشاعر أن أحدهما قد عض الجرذ في ذنبه ولكن المتنبي يمزج الهجاء بالفحش في كثير من شعره ومن الفكاهة ما كان يستعمله الشاعر في المديح تغالياً في إعلاء ممدوحه وتكثيراً لما يستخرجه من المعاني وأكثر هذا النوع سخيف لأنه أقرب إلى الذم منه إلى المدح وأني ما قرأت قوله:

خفت إن صرت في يمينك أن تأ - خذني في هباتك الأقوام

ألا تملكني الضحك من ذلك المنظر الغريب المودع في هذا البيت وذكرت ما يشبهه مما يحدث يوم الجمعة عند باب السيدة زينب حيث يتسابق الفقراء والمساكين إلى التمر والكعك والفطير الذي تفرقه النساء صدقة وقد بلغني أن امرأة وضعت حذاءها في ناحية فأخذه أحد المساكين حاسباً أنه من هباتها وقد خاف المتنبي أن صار على قرب من ذلك الكريم أن تأخذه الأقوام حاسبة أنه عبد من هباته ومثل هذا قوله:

وقلبك في الدنيا ولو دخلت بنا ... وبالجن فيه ما درت كيف ترجع

أليس هذا أقرب إلى السخر والتهكم منه إلى المدح ولكن هكذا الشاعر القدير إذا لم يراقب خياله أتى بالمستهجن ولا يحسب أن المتنبي أراد أن يمزج بمعاني المدح شيئاً من الفكاهة وهو خروج بالمدح عن حده وليس هذا من أدب المدح وإنما دفعه إلى مثل هذا الغلوُّ وحب