للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بين هذه الجموع المحتشدة التاجر المعهود إليه أمر السفينة - عرفته بما كان يبدو عليه من القلق وما ارتسم على جبينه من سيما التقدير والمحاسبة وكان واضعا يديه في جبينه يصفر كالمفكر المتروي رائحا غائدا وسط مجال ضيق كان قد أفسحته له المزدحمون احتراما وإعظاما لأهميته المؤقتة. وكان الهتاف والتحيات تتبادل بين الساحل والمركب كلما تعارفت الأصدقاء. وقد بصرت بامرأة فتية بذة الهيئة لكنها مستملحة الملامح والشمائل وكانت مقبلة بوجهها من بين الجموع وقد جالت ببصرها سريعة اللمحات في أنحاء المركب تلتمس من بين ركابها وجها مؤملا محبوبا وكأنما خاب ظنها فاستولى عليها الإشفاق والقلق. وما لبثت أن سمعت صوتا خافتا يناديها باسمها. وقد انبعث هذا الصوت من نوتي مسكين كان قد مرض أثناء الرحلة حتى رحمه كل من في السفينة وكان قرناؤه لما أقبل الصحو فرشوا له وسادة في مكان ظليل من السفينة ثم ألح عليه المرض في أخريات الرحلة حتى ألجأه إلى حجرته وقد قال لعواده أن أقصى مناه أن يبصر زوجته قبل مماته. فحمله أخوانه إلى ظهر المركب لما أصعدنا في النهر فاتكأ على الشراع وقد بدا من هزال وجهه وفرط صفرته وشحوبه ما ليس يستغرب معه إن أخطأته ألحاظ الشغف والولوع من زوجته المشتاقة. ولكنها ما سمعت صوته حتى انثنت ألحاظها نحو وجهه فقرأت على صحيفته لأول وهلة كتابا مستفيضا من الحزن والأسى فضمت يديها وأرسلت صيحة ضعيفة ووقفت تعصر كفيها المضمومتين في وجد صامت.

وعم بعد ذلك الهرج والمرج - فتقابل الصاحب وتصافح الأحباب. وتآسى التجار وأرباب الأشغال. ووقفت بينهم فريداً ساكتا لا أجد من ألقاه ولا من يلقاني ويهتف لي ويرحب. ثم نزلت بديار آبائي وأجدادي ولكني وجدتني فيها غريبا. .