للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المكتسبة من الطبيعة وأما استخراج المنافع من ذلك واجتلاب الفوائد فشيءٌ نقتبسه من الناس ونحمله عنهم وأما تجارب المرء وما يهديه إليه نظره فيما حوله فذلك ما اسميه التربية المكتسبة من الأشياء وكذلك يتواطأ على تخريجنا وتربيتنا أساتذة فمن تعارضت فيه دروسهم وتباينت تعاليمهم فذهب الخُلف بكلٍ مذهباً فقد ساء تخرجه ولم تحسن تربيته وأما من تدامج فيه تأديبهم وتسايرت كلمتهم واتحدت وجهتهم فهذا الذي حسنت تربيته فصار حقيقاً أن يعيش أكمل عيشة وأرغد حياة.

وإذا نحن تأملنا هذه الأنواع الثلاثة وجدنا أن التربية المكتسبة من الطبيعة مستقلة عنا من بينها لا دخل لنا فيها وأن التربية المكتسبة من الأشياء رهن بنا من بعض الوجوه وليس درج أيدينا وتحت حكمنا إلا التربية المكتسبة من الناس. بيدَ أن هذا صحيح نظراً لا عملا إذ من ذا الذي يرجو أن لا يغفل الطفل طرفة عين وأن يراقب حركاته وسكناته ويوقظ رأيه لكل ما يقال ويفعل على مسمع من الطفل ومرأى حتى لا يسمع لغو الكلام ولا يرى فعال الأشرار.

ومتى صارت التربية فناًّ فقد أوشكت أن يصير نجاحها أمراً لا تبلغ إليه وسيلة ولا تناله حيلة لأنا لا نملك كل شروط النجاح وأسباب الفوز وغاية ما تصل إليه مقدرتنا هو أن ندنو من الغاية القصوى جهد المستطاع فأما بلوغها فلا يكون إلا بمساعدة الحظ وهذا مالا يصح أن نعتد به أو نعتمد عليه.

وما عسى هذه الغاية تكون؟ هي التي يهدينا إليها سراج الطبيعة لأنه لما كان تآزر الأنواع الثلاثة ضرورياً لتمام التربية كان من الضروري كذلك أن نجعل ما في أيدينا ذريعة إلى الظفر بما ليس فيها ولما كان لفظ الطبيعة من الغموض والاستبهام بحيث لا نأمل أن يفهم الناس ما أوقعناه عليه من المعنى لذلك رأينا أن نفصح عن مضمونه ونعرب عن مكنونه حتى لا تلتبس علينا وجهة الصواب.

قالوا الطبيعة هي العادة والمرء مما تعود. وهذا قول يحتاج إلى إيضاح فاعلم أن المرء قد يجري في حياته على عادات لا محيد له عنها ولا سبيل إلا إليها من غير أن يغير ذلك من الطبيعة أو يؤثر فيها فهو في ذلك كالعود الذي أخذت عليه طريقه وحلت بينه وبين مسيره الرأسي فإذا خليته وشأنه بعد ذلك لم يرجع عما رسمت له بل يمضي حيث أكرهته ولكن