للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الرث يفسد المعنى والشائق من الألفاظ يزينه ولو كان مبتذلاً. أنظر إلى قول جرير (ويروي للمعلوط السعدي):

إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا

غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا

هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته بسيطاً وانظر قول بشار:

إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة ... ذُرى منبر صلى علينا وسلما

فهذا كلام فخم جزل وهو أذل على القوة وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار ثم انظر إلى قول لبيد:

ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح

فهذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق وكذلك قول النابغة:

خطاطيف حجن في حبال متينة ... تَمد بها أيد إليك نوازع

فإن ألفاظه ليست جياداً ولا مبينة لمعناه لأنه أراد أنت في قدرتك علي كخطاطيف عقف وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف على أن المعني ليس جيداً ولا غنى بالكاتب الذي يحاول أن يملك أعناق المعاني ورقاب الخواطر ولا الخطيب الذي يريد أن يضع لسانه حيث شاء عن الإقتداء بالأولين والاقتباس من المتقدمين واحتذاء مثال السابقين فيما سلكوه من طرقهم ونهجوه من سبلهم والمقلُّ من الألفاظ يعجز عن ذلك واللفظ أصلحك الله زينة المعنى وأن يكن المعنى عمادَ اللفظ فليس ينبغي أن تكون الألفاظ غير مشاكلة للمعاني في حسنها ولا المعاني غير مشابهة للألفاظ في جمالها وما مثل المعنى الرائع في اللفظ المبتذل إلا كمثل المليحة الحسناء في طمر خلق وبراعة الشكل وظرف الهيئة نصف الجمال ونصفه الثاني حسن المُجَرَّد فليست عناية الكاتب باللفظ إلا كعناية الغادة بثيابها واللفظ أغلى من المعنى ثمناً وأعز مطلباً فإن المعاني موجودة في طباع الناس يستوي الجاهل فيها والحاذق ولكن العمل في الكتابة الأدبية على جودة الألفاظ وحسن السبك وصحة التأليف ألا ترى لو أن رجلاً أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر وفي الإقدام