للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهو لعمري استهزاء.

ولقد كان من إعجاز القرآن أن يجمع هؤلاء الذين قطعوا الدهر بالتقاطع على صفة من الجنسية لا عصبية فيها إلا عصبية الروح إذ أخذهم بالفطرة حتى ألف بين قلوبهم وساوى بين نفوسهم وأجراهم على المعدلة في أمورهم فجعل منهم أمة تسع الأمم بوجهها كيف أقبلت لأنها لا توجهه إلا لله فكأن بينها وبين الله كل ما تحت السماء. ومن هذا المعنى نشأت الجنسية العربية فإن القرآن بدأ كما علمت بالتأليف بين مذاهب الفطرة اللغوية في الألسنة ثم ألف بين القلوب على مذهب واحد وفرغ من أمر العرب فجعلهم سبيلاً إلى التأليف بين ألسنة الأمم ومذاهب قلوبها على تلك الطريقة الحكيمة التي لا يأتي علم تربية بأبدع منها. أما التوفيق بين مذاهب قلوبهم فبالدين الطبيعي الذي جاء به القرآن ولو نزعت الطبيعة الإنسانية إلى غير معانيه لكانت طبيعة شر وإن ظنت منزعها إلى الخير. وأما التأليف بين ألسنتهم فيما نزع إليه من المعنى العربي الذي حفظه القرآن على الدهر ببقائه على وجهه العربي الفصيح لفظاً وحفظاً لا يجد إليه التبديل سبيلاً، ولا يأتيه الباطل محيلاً ولا يدخله التحريف كثيراً ولا قليلاً بحيث يكون كأنه عقدة لغوية لا تتحلل منها الألسنة المختلفة وهذا من أرقى معاني السياسة فإن الأمم إذا لم تكن لها جامعة لسانية لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق. وجمع التفريق هذا هو الذي يشبه الاجتماع في الأسواق على البياعات وعروض التجارة ونحوها فإن سوق الأمم تتاجر فيها الأديان والأهواء وتكدح فيها المصالح والمفاسد وفيها كذلك التغرير والخطار والكذب والخداع ولكل من أهلها شرعة ومنهاج. فبقاء القرآن على وجهه العربي مما يجعل المسلمين جميعاً على اختلاف ألوانهم من الأسود إلى الأحمر كأنهم في الاعتبار الاجتماعي جسم واحد ينطق في لغة التاريخ بلسان واحد فمن ثم يكون كل مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن حيزه وانتفى من صفته الطبيعية لأن الجنسية الطبيعية التي تقدر بها فروض الاجتماع ونوافله هي في الحقيقة لون القلب لا سحنة الوجه.

وقد ورث المسلمون عن أوليتهم هذا المعنى فلا يعلم في الأرض قوم غيرهم يعتصمون بحبل دينهم وأيديهم في الأغلال. ويجنحون إليه بأعناقهم وهي في ربق الملوك من الإذلال. ويخصونه بقلوبهم حتى يكون أملك بها وأغلب عليها ولا يحتملون فيه سخطة ولا يؤثرون