للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واللاتينية فقد استفاضت في أوربا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والاسبانية وغيرها وكان منها علمي وعامي - لغة القلم ولغة اللسان - ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في مناطق هذا الجيل مالا تعرف له شبيها في المتباعدات المعنوية حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود.

فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي حتى ضارت جنسية فلو جن كل أهلها وسخوا بعقولهم على ما زينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا. . . . لحفظها الشعور النفسي وحده وهو مادة العقل بل مادة الحياة وقد يكون العقل في يد صاحبه يضن به ويسخو ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله وهذا تأويل قوله سبحانه إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون.

ولولا هذا الشعور الذي أومأنا إليه لدونت العامية في أقطار العربية ولخرجت بها الكتب ولكان من جهلة الملوك والأمراء وأشباههم ممن تتابعوا في التاريخ العربي من يضطلع من ذلك بعمل إن لم يكن مفسدة فمصلحة كالذي فعله بعض ملوك الرومان وبعض شعرائهم في تدوين العامية من اللاتينية حتى خرج منها اللسان الطلياني وكما فعل اليونان في استخراج اللسان الرومي وهو العامي من اليونانية. ولو أن أحداً استقبل من ذلك أمراً وأراد أن يحمل الناس عليه لاستقبل أمراً بعض ما فيه العنت كله والضياع بحملته ولشق على نفسه في بلوغ إرادة لها من شعور كل نفس عدو حتى يستفرغ ما عنده وكأنه لما يبدأ مع الناس لأن له مدة نفسه وحدها وللناس عمر التاريخ كله ومتى لم يقع على فرق ما بين الاثنين وأراد أن يتولى عمل التاريخ فليس بدعاً أن يجعله التاريخ بعض عمله وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

مصطفى صادق الرافعي