للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وحفز الأمم إلى أغراضهم. ولو بحثت عن سر قيام الدعوات الدينية لما وجدت إلا أنه اعتقاد راسخ في قلوب أتباعها بأنهم على الهدي وأن كل من خالفهم على الضلالة وأنهم وحدهم أولو الحظوة عند الله. وأما من عداهم فمطر ودون من ملكوته. محرومون من رضوانه.

بيد أن لهذه الفضيلة شططاً يضحك أحياناً وقد يفضي بها أهلها إلى حد المغالاة. فإنك لا تعلم كيف ألقى في روع الإنكليزي مثلاً أنه أرقى الناس أخلاقاً وأسماهم محتداً وأنبلهم سجية. ولا كيف يعتقد الفرنسي أنه خير من كل ألماني. أو كيف أن الألماني يري الفضائل كلها مجتمعة فيه وأن ما عند سائر الأمم منها فضلة كالصبابة في الكأس. على أنها مغالاة تحتمل إلى جانب ما للعصبية من النفع. وقد ينتهي ضيق هذه العاطفة إلى السعة. ويؤول أمرها إلى التسامح لاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه تواصل الأجناس المختلفة.

ووقف أبناء كل أمة على مزايا الأمم الأخرى ونقائضها. كما تؤول أثرة الجهول إلى شعور نبيل بالكرامة الذاتية. متى هذبها العلم وصقلتها الخبرة.

فإن كانت الحرب كما يقولون مبعث هذه العصبية فمرحباً بالحرب وأهلاً. وإن لم تكن إلا الحرب وسيلة إلى إحياء روحها وتماسك أجزائها فالحرب قوت لا غنى للأمم عنه. ولا قوام لها إلا به.

ولكن ما أبعد هذا القول عن الحقيقة. فإن لدينا ألف وسيلة إلى حفظ العصبية قد لا تكون عصبية الحرب إلا أوهاها سبباً وأوهنها أثراً. وإلا فما هي عناصر العصبية الحربية؟؟ أليست هي اعتداد بأحكام التسديد ووفرة الذخائر؟؟ وفخراً بكثرة الجنود ومضاء الأسلحة؟؟ وما هي الشجاعة العسكرية؟؟ أليست هي أقدام الأعمى على الهاوية؟؟ أو ليس المسوق مخفوراً إلى ساحة الإعدام، أشبه في شجاعته بمن يساق مرغماً إلى ساحة القتال؟؟ بل ما قيمة مفاداة الجندي بنفسه، إذا لم تكن له يد في اختيار الغرض الذي يفادي نفسه من أجله؟؟ بل ما أشبه الجندي في هذه الحال بالجلاد الذي يقتل كل من يقدمونه إليه ولا يعنيه إن كان مجرماً أو بريئاً، أو كان القاضي عادلاً في حكمه عليه أو جائراً؟؟

إن للأمم مندوحة عن هذه العصبية الشوهاء، بعصبية الأدب السمحاء. فإن في كل أمة رجالاً رفعوا منار ذكائها وزانوا تاريخها بمثل ما تزين السماء نيرانها. فإذا فاخر الإنكليزي